أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

يرحم روحك يا بلعوس.. قراءة في خصوصية السويداء واللحظة

من مظاهرات السويداء - نشطاء

بدايةً لا يمكن، بتقديرنا، الفصل بين حراك السويداء اليوم، والمسار التاريخي للثورة السورية.

ويبدو هذا الحراك نتيجةً لسلسلة من الوقائع، والصراعات، التي سمحت لمعارضي السويداء بالعودة إلى التعبير عن قناعاتهم التي لم تتزحزح منذ بداية الثورة في 2011 على أقل تقدير.

وتجدر الإشارة دائمًا إلى أن الحراك في السويداء موجود منذ البدايات المبكرة في 2011، ولكنه لم يمتد ويتضخم لأسباب معقدة يطول الحديث فيها..

ولمقاربة شاملة ومختصرة لأسباب تعرقل الحراك وعودته اليوم، نضع سبين: الأول تراكمي مضمونه خصوصية السويداء، وفيه وضع النظام الخاص في السويداء قُبيل الثورة، وأيضًا فيه ما نسميها "الظاهرة البلعوسية" (نسبةً إلى المرحوم الشيخ وحيد البلعوس مؤسس حركة رجال الكرامة).

ولا تعني البلعوسية حمل السلاح من رجل الدين ومعارضة النظام بالقوة، بقدر ما تعني تأثير ظاهرة رجال الكرامة على خلخلة البنية الاجتماعية المتوارثة في السويداء، وسنتناول ذلك على عجالة في سياق الآتي.

والسبب الثاني آني ومباشر، سببه الوضع الاقتصادي المتردي، وأيضًا الصدمة الناتجة عن المواجهة العسكرية بين مسلحين من بلدة القريا والفيلق الخامس في درعا مؤخرًأ والتي كانت إحدى النتائج القريبة لسلوك زعران النظام وحزب الله وروسيا وراح ضحيتها أكثر من خمسة عشر شابًا من بلدة القريا، ومن المُمكن أنها كانت شكلا من أشكال الصراع الروسي الإيراني غير المباشر التي كان السوريون وقودها.

لذلك نقرأ المظاهرات في محورين أساسيين، الأول يتعلق بالمكان وخصوصية السويداء، والثاني يتعلق بالزمان أي توقيت المظاهرات الآن..

أولًا: المظاهرات في ظل خصوصية السويداء
خصوصية السويداء في الثورة تتحدد في مستويين، الأول اجتماعي، والثاني سياسي.

الخصوصية الاجتماعية هي المرتبطة بشعور هذا المجتمع/الطائفة بما يمكن أن نسميه الفخر الوطني، نتيجة إسهامه الأساسي في طرد الفرنسيين، وبتضخم شعوره بالعزة وبـ"الكرامة" عند استحضار أحداث الثورة السورية الكبرى، من ثم الاستناد إلى هذا الفخر الماضي في تحديد الدور العمومي في الحاضر.

وقد أدى هذا الفهم الأيديولوجي للماضي بما يحمل من قدرة جبارة على ضخ الشعور برضا الذات الجمعية عن نفسها على الصعيد الوطني، إلى ظهور عزوف المجتمع/الطائفة عن الشأن العام. لذلك كان الحراك في السويداء فرديًا ونخبويًا ولم يكن يستند إلى عمقٍ اجتماعي راسخ، كما في جارتها درعا أو في غوطة دمشق وفي حمص..

وفي الحقيقة قامت الظاهرة البلعوسية بخلخلة هذا الفهم الماضوي للكرامة ولنوعية ومصادر الفخر والرضا. خلخلته لكنها لم تتركه، بل قامت بالاستناد إليه بصناعة الخبر الجديد من ثم الفخر به، بدلًا من الاعتداد به والاكتفاء به على اعتباره مصدرًا لا ينضب للكرامة، وبهذا المعنى كانت البلعوسية بحق تعيش بدلالة الحاضر والمستقبل من دون أن تنسف الماضي بل بالاتكاء عليه.. وهذا الأمر تراكم إلى اليوم، حتى بعد تشتت الحركة نسبيًا. وإن هي إن لم تقم بأي دورٍ سوى هذا الدور، فهذا كافٍ لنراها ظاهرة مُهمَّة، وهذه الظاهرة من أهم الأسباب غير المباشرة لما نراه اليوم، لأنها أدت إلى تجاوز الوعي السكوني الذي أثَّر في المجتمع والطائفة، إلى وعيٍ وطني يرى أن شرط بقاء الجماعة يشترط التصاقها بالوطن. ولهذا الأمر أهمية أيضًا بالنظر إلى أن الدين في السويداء لا يتصدر بل يدير المسائل من الخلف وهذه مسألة مهمة ولكن يطول الكلام فيها...

وإذا أردنا الخوض في الخصوصية السياسية في عجالة، نحددها في فترة قبيل الثورة، حيث كان النظام يدرس بدقة بنية المجتمع في السويداء بعد تداعيات اغتيال الحريري، وتشكيل المحكمة، وتأزم العلاقة مع جنبلاط خوفًا من أي بلبلة من الممكن أن تحدث في السويداء إثر ذلك.. وفي هذه الفترة حرص الأسد شخصيًا وعقيلته على القيام بزيارات متكررة إلى السويداء، وحرص النظام بالمجمل على سياسة الغزل بالدروز، وتعظيم دروهم، وهذا ما نقرأه في مقولة الأسد الشهيرة التي قالها من شرفة مبنى المحافظة: "السويداء قلعة الصمود والتصدي". والتي حرصت الأفرع الأمنية بعد ذلك على نشرها في لوحات ملأت شوارع المدينة وأزقتها، وترافقت مع صور تجمع سلطان الأطرش (في المنتصف) وبشار الأسد ونصر الله على يمينه ويساره.. وفي هذا الظرف الخاص من الغزل والوعود بالتمييز والإصلاح وحفر الآبار وإنعاش المحافظة أتت الثورة.. وفي الحقيقة هذه الخصوصية الثانية التي ساهمت في مضاعفة قدرة النظام على التعامل مع حراك السويداء في 2011، لأنه ببساطة كان مستعدًا جدًا قياسًا بباقي الأماكن.

مستعدٌ على المستوى المجتمعي بحيث كان قادرًا على إحداث شروخ وتطبيق سيناريوهات مجهزة بدقة مسبقًا لمثل هكذا ظرف.

ثانيًا: المظاهرات في هذه اللحظة
هذه اللحظة بدأت مع الحراك المطلبي الذي انطلق في بدايات 2020 تحت شعار "بدنا نعيش"، الذي يدل على بداية تملل اقتصادي وإحساس بحجم الكارثة التي ترك فيها النظام مؤيديه.. ولكن الاقتصاد آنذاك لم يكن الأمر الحاسم بتقديرنا، بل هو السبب الذي يبرر التظاهر ويجعله ممكنًا من دون قمع وحشي. وفي العمق فإن حراك "بدنا نعيش" لم يكن تعبيرًا عن الفُقر من ثم طلب سُبل العيش من السلطة، بل كان تعبيرًا عن استشعار الموت القريب ومن ثم طلب الحياة: بمعنى البقاء وعدم الموت قبل الأوان.

أي كان إدراكًا جمعيًا أن النظامَ سببُ الموت الأساسي، سواء أتى الموت مع "داعش"، أو من انفلات الأمن وتجاوز الشبيحة لأبسط حدود الأخلاق في القتل والخطف والتنمر والتهريب وإذلال البشر، أو بسبب جز الشباب في معارك سببها تباين إيران وروسيا.

وهذا ما جعل المناخ العام مُهيَّأً لحراك واضح المعالم ضد النظام، لم يشارك فيه المؤيدون لكن لن تقمعه الشبيحة، أو ستتجاهل أوامر قمعه في البداية على أقل تقدير.

بالإضافة إلى أن توقيت هذه المظاهرات يأتي بعد مقتل أكثر من 15 شابًا في بلدة القريا في اشتباكاتٍ مسلحة مع الفيلق الخامس المحسوب على روسيا، مما جعل الموت حاضرًا بقوة ودفعة واحدة وقريب أكثر من أي وقتٍ مضى.

أدى ذلك كله إلى هذا المشهد الذي يذكرنا بـ2011، ليس فقط على مستوى الشعارات ومشهد التظاهرات، ولكن ايضًا على مستوى الدهشة في الحدث.

د. مضر الدبس، كاتب وسياسي - زمان الوصل
(186)    هل أعجبتك المقالة (222)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي