مما لاشكّ فيه أنّ معارضَ الفن الحديث تعاني من قلة الروّاد، ولعلّ بين الأفراد الذين يزورونها من يشعرُ بغضب مزدوج أمام اللوحة التشكيلية... غضب من النفس لعجزها عن فهم أي شيء، وغضب من الفنان الذي يضيّع المتلقي في متاهات خطوطه ثم يقذف به أكثر حيرة وعطشاً.
من المسؤول عن إقامة الصلة بين اللوحة والمتفرّج؟ الفنان أم الناقد أم المتلقي؟ وهل النخبوية المعادية للجماهير هدفٌ مشروعٌ للفن؟ وهل يُفترض بالفن أن يجسّدَ هموماً وتعابيرَ إنسانية وأن يعبّرَ عن مرحلته الزمنية؟ أللفن رسالة نهضوية أم هو مجرد تسلية وعبث مترف؟ وأخيراً هل علاقة الفن بالجمال علاقة أزلية وحتمية؟ هذه الأسئلة وغيرها يناقشها الدكتور عز الدين شمّوط في كتابه (أزمة الفن التشكيلي) الصادر سنة 2000.
الدكتور شموط فنان محترف يحملُ شهادتي دكتوراه بالفن التشكيلي من باريس، ويعيشُ منذ عشرين عاماً متنقلاً بين دمشق وباريس.
له معارض دولية عديدة وستُّ كتب نقدية، وهو من مؤسسي الحركة التشخيصية في فرنسا، وإلى هذه المدرسة تنتمي معظمُ لوحاته التي يمزج فيها بين الواقعية الكلاسيكية ومدارس الفن الحديث من سريالية وانطباعية وتكعيبية وغيرها.
كان لقائي به صدفة في معرض تشكيلي. قلتُ له: إنّ النقدَ الفني الحديث أكثرُ تعقيداً من اللوحة التشكيلية، ولايساهمُ في توضيح الفن وتقديمه للناس. ويبدو أنّ كلماتي استفزّت الناقدَ والفنان داخله فدعاني لزيارة مرسمه ليريني لوحاته وكتبه. وأعترفُ أني عدتُ منتشية بسحرية لوحاته وفي يديّ كتبه ونسختين من كتاب يضم صوراً عن لوحاته.
احتفظت لنفسي بواحدة والثانية وضعتها خلسة في غرفة ابنة أخي خريجة الفنون الجميلة. لاأعرفُ كيف أحاط بي أطفالُ العائلة وأنا أقلّبُ في كتاب الصور وراحوا يهتفون إعجاباً باللوحات، بل إنهم أحضروا كتاباً عن الآثار في سورية وعقدوا مقارنات بين لوحات د. شموط والرسوم الأثرية القديمة.
لم أتوقع أن تكون لوحاته الموجهة للكبار جاذبة ومحرّضة حتى للأطفال وهذا مايندرُ أن يحققه فنان حديث. في اليوم التالي قالت لي ابنة أخي: هذه أول مرة منذ سنوات أشعرُ بحب للوحة وأشتهي الرسمَ.
كنتُ أفهم إحباطها وانصرافها عن الفن فقد مررتُ بتجربة مشابهة في أمريكا إذ كان أستاذ الرسم في كليتي يطلبُ منا أن نغمضَ عيوننا ونلوي أيدينا ونخربشُ كيفما اتفق فوق اللوحة، ثم يعرضُ أعمالنا على السبورة ويمضي الساعات يفلسفُ خربشاتنا ويكشف مافيها من ضحالة أو عبقرية فنية.
لعلّ المواقف السابقة تبيّنُ أنّ ابتعاد الناس عن الفن سببه الفنان الذي جعل الغموضَ سمته وغايته، وأنّ الفنان الحقيقي من يخلق علاقة مع الجمهور موازية لعلاقته مع اللوحة.
يوضحُ د. شموط في مقدمة كتابه (أزمة الفن التشكيلي) أنه كان دراسة شارك بها في الندوة الدولية المنعقدة في القاهرة 1994 تحت شعار (الطليعة ومابعد الطليعة)، وينبّه إلى أنّ فن الطليعة بدأ يأخذ حيزاً كبيراً من الاهتمام العربي بعد سقوطه في الغرب معلّقاً على ذلك بقوله: "كأننا نريدُ لبس ثوب مليء بالبقع كما هي حال الملابس المستعملة التي تصل إلينا من أوربا لتباع في أسواقنا الشعبية" ويرى أنّ النقاد الأوربيين "وجدوا عندنا سوقاً سهلة لترويج بضاعتهم الكاسدة" خاصة وأنّ بعض النقاد العرب باتوا يلهثون للوصول إلى حضور عربي في الثقافة العالمية الموحدة".
ويبحثُ في تاريخ الحركة الطليعية في الغرب فيقول ظهر الفن الطليعي في الستينات من القرن العشرين مع فن البوب في أمريكا ثم انتشر في أوربة. وقد ثار روّاد هذا الفن على الكلاسيكية وعلى جميع التقاليد الفنية المعروفة وعلى المجتمع الصناعي آخذين على الفن تصويره للجمال واهتمامه بما هو راقٍ وكامل بينما يضجّ الواقع بالقسوة والبشاعة، فدعوا صراحة إلى مقاطعة اللوحة والمتحف والمعرض كرموز للماضي وللكلاسيكية، ونادوا بمقولاتٍ ثورية منها: على الشعب أن يشارك بصناعة فنه، والفن أن تفعل ماتريد، وأنّ كل ماهو حياتي ومعيشي ومنتج إنساني هو فن.
ويرى د. شموط أنّهم جسدوا أفكارهم بشكل متطرف واستعراضي وغير مقبول فنيا واجتماعياً إذ قدّم (دو شامب) المبولة على أنها عمل فني مبرّراً ذلك بقوله: "إنني أريد لفت الانتباه إلى فكرة الخَيار عند الفنان وليس إلى الانتاج الصناعي... إنّ نافورتي "المبولة" أتت من فكرة معالجة مشكلة الذوق المعاكس، أي اختيار شيء ما مبتذل وغير محبوب ومكروه من الناس لأحاول إقناعهم بقبوله". وقد تنافسَ فنانو الطليعة بعرض أشكال متنوعة من القمامة والنفايات حتى أنّ الإيطالي بييرو مازوني عرض فضلاته مصمماً على أنها منتج جسديّ بشري.
واخترعوا أساليب تعبير لاعلاقة لها بالفن فسجن "بويس" نفسه في قفص مع ثعلب ثلاثة أيام ليعلن رفضه للعنصرية ضد الهنود الحمر، وهبط من طائرة ملفوفاً باللباد ليعزلَ نفسه عن آثار حرب فيتنام "هجر عددٌ كبير من الفنانين المراسم وصالات العرض... إذ نفذوا أعمالهم على الرمل والثلج، فكانت أعمالهم تختفي بعد تعرضها لعوامل الطبيعة المختلفة، فلم يبق منها سوى الصور والأفلام".
وفي نقده لفن الطليعة يقول د. شموط إن خيار "دو شامب" للمبولة لايسوّغ عدّها عملاً فنياً إذ كان دوشامب "يكتفي بوضع توقيعه فقط على السلعة مسبقة الصنع". ويجد أنّ فناني الطليعة متناقضون مع مقولاتهم بنبذ الماضي فهم يرفضون التقليد من جهة ومن جهة أخرى هم استمرار لفن الدادا الذي ظهر بعد الحرب العالمية الأولى، ويستشهدُ ب "بال" أحد مؤسسي حركة الدادا: "تعلن حركة الدادا: إنّ الإيديولوجيات والأنظمة قد تحطمت والفلسفة انتهت، وعلى الفن أن ينهار، فإذا تحولت الفلسفة إلى زندقة وكرب وغم، فعلى الفن أن يتحول إلى تسلية وعبث، لذا يجب تحطيم مفهوم اللوحة".
ويرى أنّ فناني الطليعة الذين هاجموا المجتمع الصناعي، فأصروا على استخدام أدوات طبيعية خام في أعمالهم كانوا غير منطقيين ومتناقضين إذ عرضوا أعمالهم في صالات مجهزة بأحدث التقنيات، واستخدموا أحدث مكنات التصوير والضوء والمعلوماتية لحفظ أعمالهم مما يؤكد عجزهم عن الاستغناء عن الحضارة الحديثة.
ويشير إلى تناقضهم الأكبر أو سقوطهم حين تصالحوا مع الأنظمة الرسمية التي عملت على امتصاص خطابهم الثوري فانتهوا موظفين في المتاحف وصالات العرض والجامعات التي طالما هاجموها ودعوا إلى تدميرها "في البدء ناضل الفن الطليعي من أجل فن للجميع، فانتهى إلى فن النخبة الخاصة جداً... هناك تواطؤ بين بعض موظفي وزارة الثقافة ومدراء المتاحف وصالات العرض لتسويق أعمال الفن الطليعي، ووراء ذلك تختفي سياسة احتواء ثوار الفن الذين ساهموا في تفجير حركة الطلاب في فرنسا عام 1968".
يقول د. شموط إنّ فناني الطليعة عزلوا الفن عن قيمه الأخلاقية وجردوه من تقاليده الفنية فانحدر إلى القاع الأسفل للمجتمع، ونفر منه الجمهور، ولم يبق غير حفنة من النقاد والإعلاميين المنتفعين أو الخائفين من معارضة تياره المدعوم من الأنظمة الرسمية. وبذلك انتهى تأثيرهم في التسعينات من القرن الماضي وبدأت حركات فنية عديدة بالظهور داعية إلى عودة اللوحة والفن الحقيقي.

استخدمَ المؤلف لغة سهلة وواضحة وهذه ميزة له إذ إنه مازال يسعى كفنان وناقد معاً لإقامة علاقة جيدة مع الجمهور محافظاً في نفس الوقت على مستوىً رفيعٍ ولائق. وتبقى هناك ثغراتٌ صغيرة، فقد بحث المؤلف في الفصل الأخير من الكتاب في مصطلحي الحداثة والمعاصرة وعلاقتهما بالطليعية، لكنه لم ينجُ تماماً من الخلط والفوضى في المصطلح اللذين سببتهما الطليعية، فبينما يختارُ مصطلح الفن التشكيلي عنوانا لكتابه نراه يستخدم في النص وبشكل دائم مصطلح الطليعية، فهل يرى أنّ المصطلحين متطابقان؟؟؟
و يقع الالتباس أيضاً عند حديثه عن وجود حركات طليعية عديدة فيقول "كانت هناك حركات طليعية أيضاً لكنها مضادة للاتجاه الأول" فحبذا لو ميّز الحركة الطليعية التي انتقدها في معظم كتابه باسم واضح، وإن كان هذا غيرَ ممكن فحبذا لو بدأ كتابه بمناقشة المصطلحات وتحديدها.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية