كتب العلّامة على الطنطاوي في كتابه ذي العنوان الجميل: "كان يوم كنت": "وجاء يوم السفر، وكان اليوم الثامن والعشرين من أيلول 1928 ميلادية، وجئت محطة الحجاز، هذه العمارة التي كانت (وأظنها لا تزال) تحفة في فن البناء ومثلها، وإن كانت دونها في جمالها محطة العنبرية في المدينة، وقد سمعت أنهم يفكرون في هدمها، فإذا قبلتم مني فكأنكم إن هدمتموها قتلتم رجلاً في ذهنه تاريخ وفي جعبته تحف، ومعه قطعة عزيزة من جسد بلادكم، وكانت المحطة مائجة بأهلها كما يموج البحر بمياهه".
*مركز دمشق في القرادحة!
في كل المدن الأوربية والعالمية مركز البلد هو محطة السفر، وغالباً ما يكون المعمار قديماً وعريقاً، في ألمانيا يسمون المحطة المركزية في المدينة "البان هوف"، في بريطانيا وأمريكا يسمونها ستيشن، لكن ليس في سوريا بان هوف أو سنتر ستشين، فهي حالياً بلا مركز وبلا ثقافة، وكانت محطة الحجاز يوماً مركزها، ومحطة السفر البرية الحالية هي في طرف المدينة، ويمكن أن يقال في تبرير ذلك: إن الغرض هو تيسير السفر، لكن الناس ستأتي إلى المحطة بسيارات الأجرة، وهي مكلفة.
في مراكز المدن الصغيرة والكبيرة في أوروبا مبنى في جوفه محلات ومراكز ثقافية واستعلامية، وساعة مركزية، ومواعيد، وحضارة للتصدير، فلتتذكروا كراجات العباسيين والرائحة النتنة، ولصوص الركاب، وصور الرئيس، وباعة العلكة المتخاصمون، والحلويات العتيقة الرخيصة.
*الحصيلة:
انقرض السفر بالقطار في سوريا من غير لورانس ينسف خطوطها، فالرئيس هو لورانس، ويظن بعض الطيبين أن وراءه تجار باصات "التورز"، فجأة صارت كل باصات النقل سياحية في آواخر التسعينيات، ولم تكن من سياحة، فالمواطن مشغول بلقمة عيشه واستخراج الوثيقة من السجل المدني في بلده، فتلك هي السياحة السورية، هي سياحة وثائق ومراجعات أمنية وطبية، وقد سعت دول العالم إلى تأسيس قطارات مترو سريعة تربط العاصمة والمدن، وانتشرت فيها القطارات السريعة في عصر السرعة، لكن ليس في سوريا مترو، حتى القطار البطيء المسكين، خُنق مثل قطار الحجاز، الذي قاد حملة تدميره الحاج لورانس العرب، وقد فعل هذا الجاسوس الأفاعيل بالعرب، وعُدَّ بطلاً بريطانياً، وفاتحاً ورمزاً، بعد حملة تدمير سكة الحجاز الحديد قادها بمفرده مع تسهيلات بريطانية دولية، والخط هنا يرمز إلى أواصر الأخوة العربية الإسلامية، وأصدر هذا الجاسوس مذكراته في كتاب "أعمدة الحكمة السبعة"، سخر فيها من العرب الذين سخّرهم لتدمير الخط الحديدي، فتغلبت بفضل المساعدة البريطانية نجدٌ على الأشراف وآل رشيد، وملكت الحجاز، وهناك أفلام عدة تسخر من تخلفهم وحبهم للنهب والسلب والفوضى.
*الحجارة تقول الشعر:
عمار أتاسي في مقال منشور بصحيفة العربي الجديد عنوانه: "فيرناندو دي أراندا معماريُّ دمشق" الذي بنى محطة الحجاز.
يروي الكاتب طرفاً من حياة الفنان الأندلسي المولود سنة 1878 في إسبانيا، وعاش في بارس وإسطنبول، ومات في دمشق سنة 1969، في مقبرة باب الصغير، وتقلد مناصب سياسية، وكان مقرباً من السلطان عبد الحميد، وتزوج مرتين، مرة من يونانية، ومرة من شاميّة، ولد هذا الفنان المعماري باسم فيرناندو، ومات باسم محمّد، وهو ثاني أوربي أعرفه يعتنق الإسلام إعجاباً بفن العمارة الإسلامي بعد الفنان الفرنسي بيكار.
أصدر معهد ثربانتيس مجلداً بأعماله لم تصدرها الشام، ونحن به أولى، فقد بنى هذا المعماري سبعين تحفة معمارية في الشام. يقول أتاسي: ولعلّ أبرز إنجازات معماريّ دمشق بلا منازع، كان تصميم البناء الأثري الفريد لمحطّة الحجاز في المنطقة، التي تحمل اليوم الاسم ذاته في دمشق، بمساحةٍ بلغت 925 متراً مربّعاً شيّدت من طابقين، طلب فيرناندو من أجلها إحضار الحجر والسيراميك من مدينة تالافيرا دي لا رينا قرب طليطلة أو توليدو اليوم في إسبانيا، واستخدم في تزيين داخلها خشباً داكناً وزجاجاً ملوّناً ليخلط بذلك عراقة الهندسة المدنية الأوروبيّة بفن الزخرفة الشرقيّة.
يسارع الأسد ابن بائع الجولان، في هذه الأيام، ولعلها الأخيرة، في تعفيش سوريا قطعة قطعة، وقد رهن محطّةَ الحجازِ التاريخيةِ لروسيا لمدّةِ 45 عاماً، وذكرت في العقد الأرباح، ولم تذكر الخسائر المالية والوطنية والتاريخية.
قالت صحيفة "الوطن" السورية إنّ المشروع سيحمل اسم "نيرفانا"، وسيكون عبارة عن فندق 5 نجوم ومجمع تجاري على مساحة 5 آلاف متر مربع وبارتفاع 12 طابقاً.
ولاحظت تقارير صحافية أن غرض التأجير، هو تغيير هوية دمشق الحضارية. يقول المثل: إنَّ فرخ البط عوام، لكن يظن أنّ الفرخ يغرق، فالسباحة في الماء ليست كالسباحة في الدم، أو أن غدة الدهن في الفرخ جفّت ولا تساعدها على العوم.
تزعم الأخبار أن الشارع الدمشقي غضبَ، بعد تداول أنباء تفيد بنيّتها تحويل "التكية السليمانية" وما حولها إلى ساحة مطاعم ومحلات لبيع الشاورما والبوظة، إضافة لمشاريع استثمارية أخرى في هذه المنطقة الأثرية، ويخشى أن نرى الجامع الأموي وقد تحول إلى ثكنة عسكرية، أو ملتقى العشاق، أو حسينية إيرانية.
*محطة الحجاج إلى المدينة المنورة:
محطة الحجاز في دمشق هي محطة انطلاق الخط الحديدي الحجازي التاريخي الذي كان يصل بين بلاد الشام والمدينة المنورة انطلاقاً من دمشق، والذي توقف العمل به منذ عام 1917 م. المبنى الأثري للمحطة يعتبر أحد معالم مدينة دمشق التاريخية. وهو مبنى قديم له طراز فريد يذكر بالمجد الآفل، معطل، موحش، وجد فيه كاتب هذه السطور مرة معرضاً للكتاب التقدمي، فالكتب في سورية طبقتان: كتب تقدمية تقام لها المعارض، وكتب رجعية يقبل عليها الشعب السوري، مع أن قدرته الشرائية ضعيفة.
*ذكريات المحطة:
يتذكر أصحابنا أن القطارات كانت ترد من فلسطين بالبرتقال اليافاوي والبطيخ، ويذكرون أن البرتقال المتساقط من الرحلة كان يطعم الفقراء، فيرتوون منه. ويقول المتذكرون الذين لم تعد لهم أطلال إنهم كانوا حتى التسعينات يقومون برحلة صغيرة ممتعة في فراديس الشام، بين دمشق وبين سرغايا، وسرغايا هي آخر محطة يبلغها القطار، الذي ينطلق صباحاً ويعود مساء، ويمر بالمناطق التالية: المزة، الشادروان، دُمّر الهامة، شق الوادي، عين الخضراء، عين الفيجة، نبع بردي، الزبداني، ثم سرغايا، وإن صبيان أهل الوادي الذين تقل عندهم المساحات المزرعة كانوا يرجمون القطا الذي كان يستعمله المستعمر لنقل الأسلحة والعسكر، وسبب آخر هو دخان الفحم، الذي يؤذي ثمر الجوز الثمين، فكان أولاد المزارعين يحصبونه بالحصى، فلم تسلم نافذة في القطار من أذاهم، وكان الرجم شائعاً في حلب أيضاً، ويمكن إضافة أسباب أخرى، مثل ندرة ألعاب الأطفال. عداء أهل الوادي للقطار يشبه عداء الهندي الأحمر للقطارات الأمريكية وحضارتها المبيدة، فكان ينظر بغضب إلى هذه الآلات التي جاءت لتنهب أرضه.
*خط الحجاز أهم من قناة السويس:
بناء الخط كان ملحمة، لم تصوّر في فيلم أو مسلسل حتى الآن.
استنفر السلطان عبد الحميد الخلافة العثمانية من أجل خط الحجاز، بدأ العمل في السكة سنة 1900م وتم افتتاحها سنة 1908، وعاش الحجاج تسع سنوات يتنقلون بين المدن العربية ويزرون نبيهم من غير جواز سفر. قِّدرت تكلفة الخط بنحو 3.5 ملايين ليرة عثمانية، وقُدِّمت مساعدات شعبية من داخل السلطنة العثمانية وبلدان إسلامية أخرى. قامت الدولة العثمانية بتخصيص 18% من ميزانيتها لإنشاء الخط، وكانت هناك حاجة ماسّة لإيجاد مصدر آخر يتم من خلاله تمويل المشروع، وفي نفس الوقت أراد السلطان عبد الحميد أن يجنب دولته المزيد من الديون، فوجّه السلطان نداءً إلى العالم الإسلامي من أجل التبرع للمشروع، فتبرع بمبلغ 320 ألف ليرة عثمانية، وتبرع شاه إيران بخمسين ألف ليرة عثمانية، وتبرع خديوي مصر بمواد عينية للبناء، وأصدرت الدولة العثمانية طوابع يعود ريعها لمصلحة المشروع، وفرضت ضريبة المثقفات التي تتمثل بخمسة قروش عن كل ذكر، كما لقي نداء السلطان عبد الحميد استجابة من المسلمين من مختلف أنحاء العالم، وقد حرصت الخلافة العثمانية على تكريم المتبرعين من خلال منحهم أوسمة ونياشين مصنوعة من الذهب والفضة تخليداً لذكرى الخط الحجازي، وإضافة إلى ما تم جمعه من تبرعات، فقد قامت باقتطاع 10% من مرتبات موظفي الدولة من أجل الإسهام في إنشاء الخط، وفرضت التبرع براتب شهر كامل عليهم، كما أنها جمعت جلود الأضاحي، فبيعت وتم تحويل أثمانها إلى ميزانية الخط. غطت التبرعات حوالي ثلثي تكاليف مشروع الخط الذي بلغ ثمانية ملايين.
وقد دمّرَ شخص واحد كل هذا العمل العملاق بأيدي العرب من غير عدوان ثلاثي!
*حل لمشكلة الحقن:
الحقن هو حبس البول، وبلادنا تفتقر إلى مراحيض عمومية، والجوامع مغلقة إلا للصلاة، حرصاً على العلمانية.
وجد أذكياء في الباكستان، وهي دولة علمانية مثل نظامنا الموقر، حلاً لمشكلة التبول على الحيطان المجاورة للمحطات، فدهنوها وكتبوا عليها: الله أكبر، فحبس الناس بولهم وامتنعوا عن التبول عليها، بعد أن صارت بتلك العبارة حيطاناً مكرّمة، وهي أفضل من الشتائم التي لا تجدي، لكن كتابة الله أكبر على القطار ممنوعة في سوريا وعلى غير القطارات، فبلدنا بلد علماني، وعبارة الله أكبر توهن نفسية الأمة وتضعف الشعور القومي، وهي أخطر عبارة على النظم العربية التي تريد الزعيم هو الأكبر، وقد توقف الأولاد عن رجم القطار بعد توقفه تماماً، في أوائل التسعينيات.
*الحج إلى موسكو بدلاً من المدنية المنورة:
ذكرنا أن اسم المشروع التجاري الذي سيقام في محطة الحجاز الأثرية هو فندق اسمه نيرفانا، والفندق يعني الجنة والحوريات والقمار، على نقيض النيرفانا، فهي من الدين، فلا بد من دين وإن كان بوذيا، والنيرفانا: حج داخلي نفسي بوذي أو هندوسي، تقول دائرة المعارف تعريفاً بها: هي حالة انطفاء كامل بعد تأمل عميق وعزلة عن العالم الخارجي من أجل بلوغ السعادة الكاملة، وقد بلغت دمشق تحت بوط الحركة التصحيحية النيرفانا، فسورية مقطوعة تقريباً عن العالم الخارجي، وهي في حالة انطفاء كامل، فالكهرباء شبه معدومة، وسورية في حالة سعادة تامة في التلفزيون، الذي يحرص على إظهارها وكأنها مدينة فاضلة.
*خاتمة:
أمام محطة الحجاز سبيل ماء، وساعة توقفت منذ أن احتل التتار الجدد دمشق، وأمر تحويل الحجاز إلى نيرفانا أبعد من تحطيم الذاكرة، فهو تغيير هوية. يجب أن نضيف وصفا جديدا لأنواع الاحتلال اسمه احتلال الصهر والإذابة.
نهر دجلة صار أزرق في بغداد من الكتب التي ألقيت فيه.
ونهر قويق والعاصي وبردى، صارت حمراء من كثرة الدماء.
*أحمد عمر - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية