مشهد اختناق الإفريقي الأمريكي جورج فلويد لم يكن صادماً بالنسبة للسوريين الذين عاشوا أقسى من لحظات اختناقه تحت حذاء الشرطي الأبيض الذي لم يعر انتباهاً لصرخات فلويد وعبارته التي يتداولها الناشطون من واشنطن إلى لندن إلى باقي بقاع الأرض (لم أعد قادراً على التنفس).
لماذا؟...لأنها أقل من صرخات الموت تحت سياط التعذيب الوحشي في سجون الأسدين الملونة بالأسود في صيدنايا وتدمر والمزة ودوما والبالونة وسواها من مستوعبات الموت الصامت، وهي أقل من انتزاع الأعضاء والرؤوس في أقبية الشبيحة والفرق العسكرية والثكنات المفتوحة منذ عشر سنوات لاعتقال طالبي الحرية وكل من يرفع رأسه طامحاً بالخلاص. لأنها.. أقل من موت بالسكاكين الطائفية في الحولة وسواها من المدن الصغيرة الغافية التي كانت تحلم بالحرية فاستفاقت على دماء الأطفال والنساء، وصيحات الانتقام لقرون الظلام من بين من كانوا يعتقدون أنهم الجيران الطيبون الفقراء الذي لا يحملون عليهم ذرة حقد، وإنما هم أبناء وجع واحد وإفقار مشترك. لأنها..أقل إهانة من حرق شعر شاب ومن ثم جسده حتى الموت في اقتحام وحشي لحي لا يملك إمكانية الدفاع عن بيوته في وجه الوحشية المدججة بكامل السلاح القاتل، وأهون من ضرب رجل كبير أمام زوجته ومن ثم إهانتها جسدياً وجنسياً أمام ناظريه من وحش بشري لا يملك أي إحساس إنساني.
فيما بعد خرج الأمريكان للاحتجاج على هذه الجريمة، ومارسوا التكسير والحرق والسرقة أمام الكاميرات، وأما في سوريا المدمّرة فقد كانت أيام احتجاجاتها مثار إعجاب العالم، حيث نثر السوريون في "داريا" وردهم على القتلة، وحملوا زجاجات الماء في صيف قائظ، وهتفوا باسم الحرية، وغنوا لها، وأحاط نشاطاؤهم بمؤسسات الدولة ومخافر الشرطة خشية حجر غاضب، ومع ذلك وصفوا بالمندسين والخونة والإرهابيين.
أمن النظام في سوريا أطلق الرصاص على الجنازات فحوّل المشيّعين إلى شهداء، ورمى على الأحياء الآمنة براميل النار العشوائية، ومن ثم أكملت الطائرات حصد ما بقي من أحياء، وتدمير كل ما يدل على مظهر حياة في كل بقاع الـ (لا) التي خرجت من صدور عزلاء.
حتى اللحظة لم يخرج مسؤول أمريكي مبرراً هذا القتل الشنيع، ولم تحطم كاميرات الصحفيين إلا في حادثة واحدة تم الاعتذار عنها، فيما أطلق الرصاص على كل من يحمل جهاز هاتف نقال، وحشد النظام أبواقه لتبرير القتل الذي بدأ من درعا بجبروت محافظها وجهازها الأمني، ومن ثم انتقل إلى كل التراب السوري تحت نفس عناوين التخوين والعمالة.
لم يكن المطر سبباً في خروج أفارقة أمريكا إلى الشوارع شاكرين الله على نعمته، ولم تتهمهم نانسي بيلوسي بالطائفية وجهاد النكاح، ولم تصل وقاحة ترامب إلى وصفهم بالجراثيم والمأجورين، ولم تُجند لحربهم أبواق من الجيران الكنديين والمكسيكيين.
هنا في سوريا المسكينة فقط..تدخلت الأرض كلها لحماية كرسي السلطة، وتآمر على أفارقتها العرب والغرب وحتى الأمريكان كي يلبسوها ثوباً من دم وانتقام فيما كانت تحلم ببعض البوح والصياح.
*عبد الرزاق دياب - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية