في نيسان 2011 وبعد بداية انطلاق الحراك الوطني السوري سلمياً منادياً بالتغيير، تقدم عدد من الناشطين في مدينة دمشق، وعلى إثر إعلان وزير الداخلية آنذاك اللواء (سعيد سمور) وهو المسؤول السوري الشهير بعبارة: (بس هاي إسمها مظاهرة) أثناء تظاهرة الحريقة !!. تقدم إليه عدد من الناشطين بطلب لترخيص تظاهرة، بعد أن عاد وصرح شخصياً، بأن التظاهر السلمي (حق مكفول) بالقانون، ولا يتوجب سوى الحصول على ترخيص من الوزارة. تقدم بالفعل عدد من الناشطين المعروفين إليه بهذا الطلب وكان من بينهم المعارض المرحوم الطبيب الدمشقي (مازن مغربية).
ولقد كنا نمني النفس بحماية السلم الأهلي، ونعلم أن الأجهزة الأمنية تريد تحويل الأمر لمعركة حربية عسكرية، وأن الموافقة على التظاهرة في قلب دمشق، كانت لتعني الكثير، وأهم ما تعنيه وأد المعركة الدموية وخلق تنافس سياسي، وإن كان في الميدان أو الشارع.
حصل الاتفاق مع اللواء (سمور) وجرى التفاهم على ترخيص المظاهرة لعدد محدد من الساعات !!، و على أن تكون في شارع بغداد في العاصمة، وليس في ساحة الأمويين كما طلب المنظمون، وقد جاء تغيير العنوان – مكان التظاهرة – لكي يغير رمزية المكان، فساحة الأمويين، هي المكافىء السوري لميدان التحرير القاهري.
كانت هذه لحظة مفصلية في حياة السوريين، فإما أن تكرر سورية مشهد تونس ومصر أو يقع الفأس في الرأس. وكان التواصل على قدم وساق بين الناشطين السياسيين، الذين أدركوا بحسهم السياسي والوطني العميق، بأن التركيز على التظاهرة السلمية في قلب العاصمة، سوف يسحب البساط من يد الأمنيين المصرّين على تحويل المشهد لمعركة دموية، ولقد كنت واحداً من هؤلاء - برغم أنني كنت عضواً في حزب البعث -، هذا الحزب الذي فقد قدرته ليس فقط على القيادة السياسية الواعية، بل حتى لم يعد قادراً على (المخترة السياسية).
اذكر أنه في صبيحة يوم ترخيص التظاهرة التي ستكون في اليوم الذي يليه، تحادثت مع الصديق مازن مغربية (رحمه الله)، وكنا سعيدين للغاية بسبب الموافقة على الترخيص، حتى ولو كان المكان في منطقة أخرى غير ساحة الأمويين، واتفقنا على أن (العقلاء) في النظام السوري، مرروا أو أضافوا بعض العقل على القرارات المتخذة منذ جريمة الجنوب في درعا، التي خلدها سميح شقير في أغنية (يا حيف)، لقد قلت له يومها كلاماً كان يواجهني فيه دوماً فيما بعد: قلت له يا دكتور أرأيت؟ نحن العقلاء لنا ممثلون في هذه السلطة!! و كان يواجهني بالقول بعدها: أرأيت أنت لقد ألغوا الترخيص والمظاهرة السلمية منعت.
يا حيف !
ياحيف !
أذكر ليلتها أن الصحفي السوري (قصي عمامة) أجرى معي حديثاً على إحدى الإذاعات المسموعة في البلد، وسألني عن رأيي في ترخيص التظاهرة، وعبرت وقتها عن سعادتي لأنني أدرك بأن الضغط المجتمعي الهائل الحاصل في تلك الأيام، كان يحتاج لإدارة أزمة عاقلة وواعية لخطورة الأحداث والمآلات الخطرة، وأن السماح بالتظاهر السلمي هو الحل الوحيد الذي وعلى أساسه، وأساس الفعل الوطني السوري لمختلف القوى السياسية،(الـ مع أو ضد النظام)، يمكن تجاوز الخطر وهو (الدم).
وقد تسأل – قارئي الكريم – لم أفتح دفتر التاريخ الآن؟ لم أتحدث فيما مضى؟ وجوابي هو أن هؤلاء الذين ارتكبوا الجريمة الكبرى بحقنا جميعاً وحرمونا من فرصة سانحة، لكي نضيف لونين إلى بعضهما، فنخرج بلون ثالث !!، أي الذين حرمونا من تشكيل بناء سياسي لا يلغي أحداً !!، هؤلاء يقرؤون ما نكتب، وعليهم الآن وبعد كل هذا الدمار أن يفهموا أننا نحن أبناء المعارضة السورية السلمية النبيلة، أعقل منهم، وأرقى منهم، ولازال العقل سيد أفعالنا، ونحن ندرك أن المطلوب الوطني كان ولازال وسيبقى تمثيل الجميع في البنية السياسية، وليس إلغاء أحد (إلا القتلة) !! وأن التعاطي مع المتهمين بالقتل، يبدأ ببناء قضاء وطني شريف نزيه عادل، وتقديم الملفات إليه، وليس للثأر ولا لعمليات الانتقام، ولا للروح الانتقامية أي منزل في ضمير المعارضة السورية الوطنية.
وبما أننا نعيش كسوريين في زمن أدرك فيه معظمنا، باقتراب لحظة التغيير، فإن قوانا العاقلة والوطنية المحترمة مؤهلة لتطمين كل أطياف شعبنا، بأن القادم فرج، والقادم خير مهما كانت الإرهاصات والآلام هنا وهناك، يكفي أن نفهم جميعاً، أن الوطن يحتاج للبنائين وأن عصر الهدامين انتهى!، وأن البناء ليس مادياً فقط، بل هو يبدأ بالنفوس! فأول الجرائم كانت ولازالت تستهدف هدم النفوس، عبر صنع الكراهية.
من دفاتر الحدث1... د.محمد الأحمد*

*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية