أمام منصب خشبي بمنزلها في العاصمة البولندية "وارسو" تبدو الشابة السورية "ردينة جمول" المصابة بـ"متلازمة داون" وهي ترسم بحماس لوحات تضج ألوانها بالحياة والفرح والأمل متجاوزة من خلالها محدودية نظرة المجتمع لمثلها من المصابين بهذا المرض لتثبت أن الإعاقة ليست نهاية المطاف، واستطاعت الفنانة الشابة أن تبتكر لنفسها تقنية مناسبة لكل نوع من مواد التنفيذ التي تستخدمها في بناء المساحات وتوضّع الألوان، سواء كانت أقلام حبر أو أكريليك أو ألواناً مائية أو ألوان باستيل وتتبدى في أعمالها براعة مدهشة في تصوير العالم والمحيط بعفوية جلية، مستخدمة ألواناً مشرقة وحيوية تنقل من خلالها الكثير من الطاقة والمشاعر الإيجابية المغلفة بسمو الروح.
ولدت ردينة في سوريا مصابة بمتلازمة داون عام 1983 وترددت على مراكز الرعاية الخاصة بالمعوقين في منطقة "المزة" ثم في جمعية "دار المحبة" في منطقة "باب توما" ولم تخضع لأي علاج لأنه لا علاج لمتلازمة داون.
وعام 1999 غادرت ردينة سوريا إلى بولندا مع والديها وأنهت تعليمها المدرسي في مجمع تعليم لذوي الإحتياجات الخاصة بمدينة "وارسو" ثم انتقلت إلى ورشات التأهيل الخاصة بالمعوقين.
وتابع محدثنا أن الطفلة الموهوبة آنذاك منحت عدة جوائز في المسابقات الفنية التي أقامتها مدرستها في الأعوام 2005- 2008 وحصلت على المركز الثالث في مسابقة الأعمال الفنية اليدوية التي نظمتها مجموعة المعاهد التعليمية في "وارسو" عام 2008، كما تم تكريمها خلال التصفيات المحلية للمسابقة الفنية الوطنية السادسة (حلم) في العام نفسه، وكانت هذه الجوائز والمشاركات حافزاً لها لتنمية وتعزيز ممارستها للرسم.
وكانت "ردينة" ترافق والدها أحياناً إلى المحترف وترسم وتلون، كما يقول، مضيفاً أنه لم يتدخل بما ترسم، وأحياناً كان يوجه بعض الملاحظات التقنية لها فقط ومع ذلك لم تكن تأخذ دائماً بها، وتطورت الأدوات لديها من قلم الرصاص فالألوان الشمعية ثم المائية وأخيراً الإكريليك، كما تطور نوع وأبعاد الورق والكرتون المستخدم.
ولفت محدثنا إلى أن غالبية موضوعات "ردينة" تتعلق بالوجوه والأشخاص، أفرادأ أو مجموعات في حالات من الفرح ومن الإيحاء بالعجز (الأيدي غالباُ مقيدة ببعضها) كما ترسم من الطبيعة أو من المحيط المعيشي.
وقد أثار المعرض إعجاب واهتمام الوسط الفني، وتم بيع ربع الأعمال المعروضة تقريباً. بعدها دعيت "ردينة" لإقامة معرضها الثاني في المركز الثقافي (بورتييرنا) وفي المكتبة العامة (ف. ي . غرابسكي) في حي "وارسو"، ثم معرضها الثالث بنفس العنوان (العالم بألواني) الذي أُقيم في المجمع الثقافي في 18 كانون الثاني يناير الماضي.
وأشار الفنان "جمول" إلى أن الدافع الأساسي لهذا المعرض والمعرضين السابقين هو تسليط الضوء على قدرة الأشخاص المصابين بـ"متلازمة داون" في إثراء عالمنا وتجميله، حيث غالبًا ما يفاجئوننا بإنجازاتهم وبابتكاراتهم وبملكاتهم الإبداعية.
وفي تقديمه للمعرض كتب الناقد "رفاو نوفاكوفسكي" المشرف الثقافي في مجمع ساسكا كيمبا قائلاً: "الرسام يخلق العالم حوله، وفي أعمال ردينة جمول، تكتسب أبسط الخبرات الحياتية تعبيرًا فريدًا في تأليف فنية ديناميكية ملونة بضربات فرشاة كاسحة".
وبدورها أشارت والدة ردينة (غراجينا جمول) وهي سيدة بولندية تعمل في مجال التدريس لـ"زمان الوصل" إلى أن موهبة الرسم سمحت لـ"ردينة" بالتعبير عن نفسها بغض النظر عن التغيرات في المكان والوجوه أو التواصل اللغوي بعد هجرتها إلى بولندا، مضيفة أن ردينة "تعمل انطلاقاً من حدسها ومن مشاعرها وعواطفها الذاتية وتعيش حالة من الحرية تصونها وتدافع عنها ولا تسمح لأحد بالمسّ بها".
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية