لضمان استمراريَّتها بشكلها المشوَّه والفاسد، اخترعت أنظمةُ الاستبداد العربية عباراتٍ كثيرةً علَّقتها على حبال الإعلام الرسمي كمانشيتات مقدَّسة، لتُرهب بها كلَّ الأصوات المعارضة والناقدة.
"لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، ربَّما كان الشعار الأكثر شهرةً، وترهيباً، والذي استُخدم بإفراطٍ في الحقبة الناصرية، قبل أن تَرِثَهُ عنها الأحزاب الشمولية في الحقبة التي تلتْ، وعلى رأسها "حزب البعث"؛ بشقَّيْه السوري والعراقي.
إنه الشعار الترهيبيّ الذي به كُمِّمتْ أفواه كلّ من تجرَّأ على توجيه النقد للهزيمة الكاملة سنة 1967، والتي سُمِّيتْ تلطيفاً بـ"النكسة".
واللافت أنَّ وظيفة ذلك الشعار، وأشباهه، كانت تبلغ ذروتها كلَّما بلغت الهزيمة ذروتها. كان منسوب استعمال الشعار يرتفع كلَّما ارتفع منسوب الهزيمة، ولكأنما الفيزياء حكمت العلاقة بينهما بنظرية "الأواني الـمُستطرَقة"!
وباستمرارٍ، كان حاملو ذلك الشعار يحاولون توسعة نطاقه ليطاول معظم المجالات. فقمع أصحاب الصوت المعترض في مجال السياسة لا يكفي، طالما المثقَّفون والأدباء ورجال الاقتصاد والقانون يقدرون على الكلام. امتلأت السجون بكلّ صاحب رأي اعتقد بأن لصوته الحقَّ بالعلوّ.
إنَّ تكميم الأفواه بالشعارات كان، وما يزال، الأسلوب المفضَّل لدى الاستبداد بأشكاله كافَّة. وما يختلف هو فقط اختيار المفردات وترتيبها.
الاستبداد الديني، الذي اتَّخذ في الثورة السورية شكلَ جماعاتٍ وفصائل تكفيرية، صاغ شعاره الترهيبيّ على شكل تحريم دينيّ: حرمة "الطعن على المجاهدين".
صار الحديث عن اغتيال الناشطين في الشوارع وأمام بيوتهم "طعناً على المجاهدين".
وصار الحديث عن السطو على أرزاق الناس وأملاكهم "طعناً على المجاهدين".
وصار الحديث عن احتكار المواد الغذائية وتجارة المعابر "طعناً على المجاهدين".
وصار الحديث عن سرقة الممتلكات العامَّة (ابتداءً من محوّلات الكهرباء وصولاً إلى أغطية الصرف الصحي) وبيعها كخردةٍ "طعناً على المجاهدين".
صار الحديث عن الآلاف من معتقلي الرأي في سجون الفصائل (سبق أن نشرتُ أسماء 27 سجناً تابعاً لـ"جبهة النصرة" وحدها، مع أماكن وجود تلك السجون) "طعناً على المجاهدين".
بل حتى الحديث عن انتهاكاتٍ لتفاصيل يومية في حياة الناس لم تَرُقْ للتوجُّهات الأيديولوجية للجماعات الدينية، صار "طعناً على المجاهدين".
بالطبع، وبعد ذلك كلّه، يجدر بنا أن نجيب عن السؤال الذي وُضِعَ عنواناً لكلّ ما تلاه من كلامٍ: متى يكون النقد الثوري حقَّاً، ومتى يكون واجباً؟
وجوابي محمولٌ على ذلك التطابق النادر، الحاصل في هذه الحالة، بين الحقّ والواجب.
ففي زمن الثورة، الذي هو زمن التحوُّل الجذري الشامل الخطير، يكون النقد حقاً وواجباً في الآن ذاته، وبالقدر ذاته.
شكلٌ من أشكال من التماهي الكامل بين مفهومَي الحقّ والواجب، نجد أنفسنا أمامه، حين يتعلَّق الأمر بالنقد الثوريّ.
إنَّ النقد الثوري حقٌّ من الحقوق بقدر ما هو واجبٌ من الواجبات. بل هو بالأحرى، وبتكثيفٍ أشدّ، واجبُ استعمالِ هذا الحقّ، الذي من دونه تُهدَر بقية الحقوق، وتُهمَل بقية الواجبات، ونصبح عالقين بين دكتاتورية ما ثرنا عليه... ودكتاتورية الثورة نفسها.
*شاعر وكاتب سوري
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية