نَشَرت بعضُ وسائل الإعلام الغربية والعربية مقالات فَهِمَ منها بعضُنا أن التدخين ربما يَحمي المدخنين من الإصابة بـفيروس كورونا الجديد. في البداية، لم أشأ الكتابة عن هذا الموضوع لأن تلك الدراسات لم تُظهِر في حقيقتها سوى علاقة إحصائية لا تدلّ بالضرورة على وجود علاقة سَبَبية بين التدخين والفيروس. ولكنني فوجئتُ بانتشار هذا الفَهم الخاطئ، وطُرحَتْ عليّ أسئلة متكررة حول هذا الموضوع، فرأيتُ أنه ربما يكون توضيح هذا الالتباس ضرورياً.
نَشَرت إحدى الصحف الغربية المهمّة "Mail on Line" ملخصاً لمراجعةٍ إحصائيةٍ قام بها عددٌ من الباحثين في جامعة لندن، لثمانية وعشرين بَحثَاً مَنشوراً عن عدد المدخنين المصابين بفيروس كورونا الجديد مقارنة بعددهم في المجتمع بشكل عام. ونُشِرَت الدراسة على الإنترنت، وشَمَلتْ 22 بَحثاً من الصين، وثلاثة من أميركا، وبَحثاً واحداً من كل من كوريا الجنوبية وفرنسا وبريطانيا.
نسبة المدخنين في المستشفى إلى نسبتهم في المجتمع
أظهَرت هذه الدراسات الإحصائية أن نسبة المدخنين بين المصابين بـفيروس كورونا الجديد، الذين دخلوا إلى المستشفى، كانت أقلّ من نسبتهم المعروفة في المجتمع بشكل عام، ففي الصين مثلاً كانت نسبة المدخنين في المستشفى 3.8 % بينما هي في المجتمع 52 %، وفي أميركا كانت نسبة المدخنين في المستشفى 1.3 % بينما هي في المجتمع 13.8 %، وفي فرنسا 7.1 % في المستشفى بينما هي 32 % في المجتمع، وفي بريطانيا 5 % في المستشفى بينما هي 14.4 % في المجتمع.
أُجريَتْ هذه الدراساتُ الإحصائية استناداً إلى السّجلات الموجودة وليس بشكل مُسبَق، لذا لم يكن هنالك تفصيلٌ وتمييز واضح بين المدخنين السابقين أو الحاليين أو الذين لم يدخِّنوا مطلَقاً.
لم تَذكُر نسبة الوفيات بسبب هذا المرض سوى ثلاث من هذه الدراسات الإحصائية! واستَنتَجتْ هذه الدراسات الثلاث أنه لا يوجد فرقٌ واضح في الوفاة بسبب الإصابة بفيروس كورونا الجديد بين المدخنين وغير المدخنين، بينما ذَكَرَتْ دراساتٌ نُشِرت في الصين في بداية الجائحة أن الإصابة التنفسية بفيروس كورونا الجديد كانت أسوأ عند المدخنين، وأن نسبة الوفيات بينهم كانت أكبر. فهل هناك مفارَقة أخرى؟
مفارقة المدخنين Smokers Paradox
ذكّرتني هذه النتائج التي تُبَيِّنُ تناقضاً ظاهرياً في إحصائيات الإصابة بـفيروس كورونا الجديد، بمفارَقة أخرى ظَهَرتْ في أواخر الثمانينيات في دراسات إحصائية لسجلات المصابين بالأزمات القلبية للمرة الأولى في حياتهم، والتي بَيَّنَتْ أنّ نسبة الوفيات لدى المدخنين الذين يصابون بأزمة قلبية حادة للمرة الأولى في حياتهم كانت حوالي 3.4 % بينما بلغتْ هذه النسبة 14.5 % لدى غير المدخنين!
وبالمثل، في الدراسات التي رَبَطَتْ بين نسبة المدخنين في المجتمع بشكل عام ونسبتهم بين المصابين بـفيروس كورونا الجديد في المستشفيات، ربما كانت ترجع إلى أسباب أخرى غير التدخين، مثل صغر سنّ المدخنين، وربما إصابتهم بحالات أخفّ لا تؤدي إلى دخولهم المستشفيات، أو أسباب أخرى لم تظهَر في الدراسات المبكرة بسبب عدم دقة الفحوصات أو نقص إجراء فحص الكشف عن الإصابات في المجتمع، في حين أن احتمال إجراء الفحص يشمل جميع المصابين في المستشفيات عادة ...
يحتاج حَسم تفسير هذه العلاقة الإحصائية إلى دراسات يتم ترتيبها مُسبَقاً لإجراء المقارَنة بين المدخنين وغير المدخنين، بحيث تكون مجموعَتا الدراسة متماثلتَين في الحالة الصحية ويمكن المقارنة بينهما بشكل علمي صحيح.
وقد تم بالفعل ترتيب إجراء دراسة في فرنسا للمقارنة بين استخدام لصاقات النيكوتين وتأثير استخدامها مقارنة بعدم استخدامها لدى المصابين بـفيروس كورونا الجديد. وحتى مثل تلك الدراسة لن تكون حاسمة لأنها تفترض أن التأثير يرجع إلى وجود النيكوتين في التدخين، بينما قد يكون التأثير نتيجةَ عوامل أخرى كثيرة موجودة عند المدخنين غير مادة النيكوتين.
استنتاج سابق لأوانه
في غمرة رهاب الكورونا، قَفزَ الناسُ لشراء لصاقات النيكوتين لاستخدامها في الوقاية من هذه الجائحة، وفُقِدَتْ من الأسواق في فرنسا لدرجة أن السلطات اضطرتْ لوقف بيعها! حَدَثَ مثل ذلك عندما هَجَمَ الناس في كثير من البلاد لشراء دواء الهيدروكسي كلوروكوين بعدما أعلَنَ الرئيس ترامب أنه دواء ناجع وأنه سيغيّر مَسار جائحة كورونا قبل أن تُظهِرَ الدراساتُ العلمية أنه غير مفيد كما كان يظن! وللأسف فقد توفي مزارعٌ في ولاية أريزونا الأميركية ودَخلتْ زوجته العناية المشددة بسبب تناولهما جرعة عالية من هذا الدواء دون استشارة طبيب!
التدخين والكورونا
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية