أستعيد دائماً اللحظة الأولى لسماعي أغنية سميح شقير "يا حيف" التي أرسلها إلى أصدقاء مقربين قبل نشرها، ولأن سميح السوري قبل أن يكون ابن القريّا بلدة الباشا سلطان الأطرش، قائد الثورة السورية الكبرى، ولأن المعني كانت درعا المقتولة آنذاك، يمكن فهم الإسقاطات السياسية والاجتماعية الأخلاقية، والبعد الوطني لما يحصل على الأرض السورية.
تشكل بصرى الشام والقريّا نموذجا فريدا لجوار جغرافي متطابق مناخاً وجغرافيا، ومتشابها في العادات والتقاليد، حتى إذا وقفت عند آخر منزل في واحدة من البلدتين سترى ملامح لبلدة بارتفاع مشابه على مسافة خط نظر لا تتجاوز عشر كيلومترات، لكنك تستطيع الوقوف عند خط فاصل حيث تلتقي الأرض عند فلاح يحصد زرعه من أبناء بصرى وآخر يفعل ذات الشيء من أبناء القريّا، وقد يتفاجأ من لا يعرف تلك البيئة أن الفلاحيْن يغنيان ذات "الجوفيّة" و"الهجيني".
وينسحب هذا الانسجام الجغرافي والاجتماعي على طول المسافة الفاصلة من الجنوب إلى الشمال بين قرى درعا والسويداء، إذ يعرف الناس بعضهم البعض، ولهم مصالح مشتركة، وبينهم علاقات ضاربة في التاريخ.
خلال السنوات الأخيرة شهدت المنطقة حوادث خطف وتصفيات بين أبناء السهل والجبل، بعض هذه الحوادث مفهوم نظرا لانتشار عصابات متمولة تديرها أذرع أمنية، وبعضها غير مفهوم وقد تكون جزءا من صراع إقليمي دوليّ دون وعي أطراف محلية، لكن المستغرب انتشار خطاب شعبوي تفوح من رائحة الكراهية والتعميم، وهذا الخطاب وحده القادر على تفتيت الوعي المحلّي والتضحية بتاريخ طويل من البناء.
ومع اختلاف في المعتقد بين الجانبين إلا أن التاريخ يتحدث عن سباق نادر في التعاون والتعاضد والدفع عن الجار، حتى يكاد يظن المرء أن أمن سلطان باشا الأطرش مفضّل على أمن أبناء بصرى وحوران عند كبارها ومشايخها، وأعود هنا لأروي قصة من تاريخ البلدتين بعد الثورة السورية وخلال فترة الاستقلال، فقد روى لي المرحوم فاروق المقداد "أبو الحكم" وهو نجل نائب حوران عبد اللطيف المقداد "أبو فاروق" وهو إحدى الشخصيات الوطنية المؤثرة في تاريخ سوريا عموما وحوران خصوصاً، ويعرفه أبناء الجبل جيدا.. روى لي أنه وفي عام 1954 وخلال أحداث الحراك الطّلابي في عهد أديب الشيشكلي جرى أن تم اعتقال عدد كبير من الطلاب وبينهم منصور الأطرش، وكان موقف سلطان باشا الأطرش مشرّفاً لجهة دعم الحراك، فكان أن اتخذ الشيشكلي قراراً سرّيّاً باعتقال سلطان باشا.
يقول فاروق، رحمه الله، إن والده علم بالمسألة وكان لا يمكن لأحد التوجه أو الاتصال بسلطان الأطرش، وقرر "أبو فاروق" أن يفشل الخطة مهما كان الثمن إخلاصا وحبا لسلطان والجبل وتقديماً لأولوية الجيرة والكرامة على السياسة والحكم.
ويروي: كنت صبيّاً وقتها لكننّي شهدت التفاصيل، حيث جهّز والدي اثنين من خيرة الشباب في بصرى الشام وطلب منهم أن يسريا وأن لا يطلع عليهم الصباح وقد سلما سلطان الأطرش رسالة سرية بتفاصيل عملية مخابراتية عسكرية لاقتحام بلدة القريّا بجبل العرب لاعتقال الباشا، وقام الشابان بالمهمّة، وخرج على إثرها سلطان الأطرش إلى الأردن، لتفشل عملية الشيشكلي.
لقد جعل عبد اللطيف المقداد أمن وسلامة وكرامة سلطان الأطرش أولوية على أمنه ومستقبله السياسي، وهي صورة تكررت سابقاً عندما فضّل شيوخ حوران ترك بيوتهم والفرار لفترة إلى الأردن على المشاركة بحملة لاقتحام جبل العرب وكسر شوكته.
أذكر أن عزاء شيوخ بصرى الشام كان لا يقام إلا إذا كان عدد "اللفّات البيضاء" على الرؤوس والتي ترمز لشيوخ وأجاويد الجبل أكثر من عدد "العُقُلِ والقضاضات" والتي ترمز لشيوخ بصرى وسهل حوران، وحصل هذا في مأتم عبد اللطيف المقداد نفسه.
صحيح أن الثورة التي اندلعت شرارتها من درعا بسقوط أول شهيد في 18 آذار 2011 شعرت ببعض الخذلان لأنها كانت تنتظر فزعة الجبل، إلا أن الجبل ذاته كان ضحية نظام الأسد ذاته بعد صدامات بين الدروز والبدو من أبناء الجبل نهاية عام 2000، إذ سقط خلال هذه الصدامات عشرات الشباب بنيران قوات الأمن، كما أن ثورة 2011 كان لها أنصارها الواضحون في الجبل رغم أن الحراك فيها خضع لاعتبارات صراع طرفاه قوى متنفذة أو تربطها مصالح بنيوية مع النظام وقوى مدنية وسياسية وشبابية لم تتطور لتشكل ظاهرة مع تطور الأحداث وتدخّل قوى دينية ذات تأثير عميق.
ولكي لا يكون استخدام مثال الصدام بين الدروز والبدو نوعا من الإشارة أو التنميط بشأن أحد الطرفين، فالثابت أن الدروز لديهم حلف تاريخي مع البدو منذ ما قبل الثورة السورية الكبرى، ويعرف المهتمون أن عرب "السردية" وهم بعشرات الآلاف من أبناء البدو في شمال الأردن، على حدود "سايكس بيكو" مع سوريا يسمون أنفسهم بأبناء عم الدّروز حتى اليوم، وهذا نموذج لطبيعة المكوّن الديمغرافي لهذه المنطقة.
وليس غريبا أن أبناء السهل والجبل خاضوا جولات من الاقتتال المحلّي، أو ما يسمّى "الكونات" لعشرات السنوات بعد أن قدم الدروز ابتداء من مطلع القرن السابع عشر من لبنان وبعض مناطق ريف شمال سوريا الغربي، إذ كانت تقطن الجبل عوائل من أبناء حوران من المسلمين والمسيحيين والبدو، وانضمّ إليهم الدروز، وكانت المساحة واسعة لكي يستقر الجميع بعدها، فالخلاف والاختلاف لم يكن ذا عمق عقائدي بالقدر الذي كان صراعا طبيعيا على الكلأ والمرعى ومن أجل الاستقرار، والدليل أن البدو اشتبكوا فيما بينهم لنفس الغرض، ولا يخلو تاريخ أبناء سهل حوران من تلك الصدامات العرضية.
لم يسجل تاريخ بصرى الشام أحداث صدام وجوديّ مع الجبل عموما والقريّا خصوصا، ومحاولة تركيز نقطة الصدم بين هاتين البلدتين يحمل دلالات على مخطط جهنّي نظرا لرمزية العلاقة بينهما، ويجسّد هذا الحفر وتنشيط الفتن صراع مصالح لا مجتمعية بل عسكرية واستراتيجية، فهناك ثلاثة أطراف إقليمية لاعبة في هذه المنطقة وهي روسيا وإيران وإسرائيل، ويتحرك النظام بأجهزته الأمنية كرأس جسر لخلق نوع من الخلخلة مرّة لمصلحة الروس وأخرى لمصلحة إيران، وتبقى عينه أيضا على عدم إغضاب إسرائيل التي تخشى تأثير صراع محلّي هناك على دروز الجولان وفلسطين.
ربما لم ينتبه كثيرون إلى مكانة بصرى الشام بالنسبة لإيران التي تعتبر ميليشياتها بأن لديها ثأرا خاصّا مع القوى المحلية فيها بعد أن تمكنت الفصائل من طرد القوى المسلحة التي يديرها حزب الله من المدينة معتمدا على وجود مئات العوائل الشيعية التي جرى تجنيد شبابها في معركة عبثية مع أبناء سهل حوران، إذا قامت إيران بتجميع بقايا ميليشيا محلية في محيط بصرى وجرت عدة محاولات لمهاجمتها من أكثر من محور، ويسجّل للكثير من أبناء الجبل رفضهم إيواء تلك الميليشيات، لكن إيران استطاعت بناء قواعد لها في السويداء ودرعا، وهذا ما يجب وضعه بالاعتبار خلال تحليل ما يحصل من عمليات خطف وتصفيات.
يحمّل الكثيرون من أبناء السويداء بعض الفصائل التي اندرجت تحت لواء قوات الفيلق الخامس مسؤولية قتل عدد من أبناء السويداء خلال الفترة الأخيرة، وهو أمر مفهوم بظاهره، إلا أن ما يغيب عن ذهن الكثيرين أن روسيا التي تملك اليد الطولى في نشاط هذا الفليق قد لا يكون في مصلحتها مثل هذا الصدام مع تفاهمها الواضح مع الجانب الإسرائيلي، وحتى الأمريكي في قضية الوجود الإيراني في الجنوب، وهذا يعطي مؤشرا على متغيرات ومفاجآت قد لا تكون مفهومة على المستوى الشعبي بينما يلحظها المراقبون بشكل دقيق، فأجهزة استخبارات النظام تعمل جاهدة مع إيران لمنع سقوط تلك المنطقة تحت النفوذ الروسي بشكل كامل لأنها تشكل وسادة حامية أما انتشار ميليشيا حزب الله على الحدود قرب الجولان، وهذا التنافس على هذه المنطقة لن ينتهي إلا في ربع الساعة الأخير من المعركة الطاحنة في سوريا، والتي يبدو أنها تعيش آخر مراحلها بدلالات التسريبات الروسية عن مستوى الضعف والفساد الذي ينخر نظام الأسد، وهو فيما يبدو تمهيد واضح لتطورات مقبلة ترسم نهايات دولة الأسد دون أن يعني هذا نهاية الحرب وخروج القوى المحتلّة.
*علي عيد - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية