أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

بوط... د. محمد الأحمد*

الكاتب: الوطن لا يكبر بـ (البوط) بل بـ (العقل)

اليوم الجمعة 17 نيسان / أبريل هو اليوم الوطني لسورية، عيد الجلاء، فيه رحلت فرنسا عن البلاد الذي لم يقبل آباؤه، أي آباء الجلاء تسميته يوم الاستقلال ! وذلك لأنهم و نحن معهم كنا نريد استقلالاً ناجزاً ! ولقد احتفل الشعب السوري لأول مرة بذكرى الجلاء عام 1947م بعد أن مر عام على خروج آخر جندي فرنسي، لكن وما إن مرت سنتان على هذا الاحتفال، حتى انقض الجيش على الحكم موجهاً بذلك الطعنة الأولى لـ(البرلمان) وسارقاً من الشعب ندوته البرلمانية، التي يجب ولا بد و يلزم لها تراكم زمني في العمل، حتى تراكم تجربتها ومؤسستها فيتكيف الحال السياسي كله مع البرلمان.

وهكذا بدأت الطعنات عام 1949م، وقد بدأها حسني الزعيم، حيث يقول عنه مايلز كوبلاند الذي كان موظفاً في السفارة الأمريكية بدمشق، لقد كان في البداية مطيعاً، ونحن ساعدناه في ترتيب انقلابه العسكري، ولكنه ما إن صار رئيساً حتى (نفش ريشه) وصار يطلب أن نخاطبه بعبارة فخامة الرئيس.

و في العام نفسه حصلت ثلاثة انقلابات أخرى، وثلاث مرات وجهت ضربات إلى الحياة السياسية الطبيعية، وكرت السبحة السورية المؤلمة فقد تدخل العسكر في أعوام 51 و54 و61 و63 و66 و70 ... أي في كل الحياة السياسية السورية مع بعض الاستثناءات الزمنية البسيطة.

وهكذا فإن من الجائز القول، بأن العسكر حولوا البلاد إلى ثكنة عسكرية، ولم يستطع المدنيون ولا في أية حقبة تطبيق الحياة المدنية في سورية، لا بل ولم يستطع فيما بعد مدنيو البعث نفسه، الذين حاولوا تقاسم السلطة مع رفاقهم العسكريين عام 1963م أن يمرروا أية آلية مدنية لحل الخلافات الناشئة في جسد القيادة، ولذلك حصل انقلاب 1966، الذي انقض فيه العسكر على رفاقهم المدنيين، وكان الأمر والزجر والقوة العسكرية التي صاروا يتفاخرون برمزها (البوط) هو الحل دائماً، ليس مع الخصوم السياسيين فقط، بل مع الرفاق أولاً.

وفي الحقيقة، فلقد أبدع كتاب كثر في العالم بعد الحرب العالمية الثانية في إعطاء حذاء الجندي المستشهد من أجل بلاده، أهمية رمزية كبرى! ونحن هنا نصر على أن كل جندي يقضي من أجل تراب سورية مدافعاً عن أرضها ضد الاحتلال هو رمز وطني، حين يقاتل المحتلين..لكن من الضروري لنا جميعاً هنا أن نناقش الأمر بعمق آخر.

تقول نظريات العلوم السياسية، بتماهي الأعداء على بعضهم البعض أحياناً، ولا بد هنا من الانتباه إلى أن تحويل بعض الدول المحيطة بإسرائيل إلى ثكنات، كان نوعاً من التماهي، و جاء تحت بند (التحرير) أولاً ! وأخذ شرعيته من واجب هذه الدول في مد يد العون للشعب الفلسطيني الجريح.

إلا أنه من الواجب أيضاً أن نتساءل في أمر هام للغاية: وهو عن إسرائيل وجيشها، فهل قام الجيش الإسرائيلي بانقلاب واحد على رئيس الوزارة أو على البرلمان؟ أي على الكنيست؟ الجواب لا بالطبع ! وهل يتدخل جنرال إسرائيلي واحد في عمل الحكومة، إلا حين يخضع للقانون الصارم الذي يجبره أن يختار كلماته بعناية، أو يحاكم، أو أن يكون جنرالا احتياطا مدنيا؟ وعملياً غالبية السكان فيها (احتياط) !.

هذه حقيقة صارخة برغم أن غالبية حكام إسرائيل كانوا جنرالات في الجيش يوماً ما، وهم أبناء المؤسسة العسكرية، إلا أنهم يقلعون البدلة العسكرية فوراً عندما يدخلون الانتخابات، ويخضعون لمعايير القبول والرفض من الناخب عندهم ولم يحدث لمرة واحدة أن تدخل (البوط) في الموضوع.

ما الذي مكن الإسرائيليين من إدراك خطورة الأمر منذ البداية؟

وما الذي كان يمنع أي جنرال إسرائيلي كبير، من إصدار الأوامر باحتلال الإذاعة وإعلان البيان رقم واحد، والتوكل على الله و الشعب، لأخذ السياسة الداخلية باتجاه ما، ثم أخذ السياسية الخارجية بالاتجاه الذي يريد؟..هنا نرجوا العلم بأن الإسرائيليين شكلوا استثناء ليس فقط عن محيطهم العربي بل عن غالبية دول إفريقيا وأمريكا اللاتينية ... فأين يكمن السر؟

إن الدولة التي تجري ثلاثة انتخابات برلمانية في عام واحد، والدولة التي تقرر يوماً أن يتناوب فيها على الحكم رئيسا حزبي العمل والليكود، بواقع ستة أشهر مداورة (منك ستة ومني ستة) وهي نفس الدولة التي تترشح فيها القائمة العربية المشتركة لينجح خمسة عشر عضواً للكنيست (البرلمان) ... لها عقل يديرها بالتأكيد.

وقبل أن يذهب عقل القارئ للاعتقاد بأن عقل هذه الدولة هو قائد خفي يأمر فيطيعه الجميع، وأنه أي هذا القائد حكيم دهره ويجلس في غرفة تحكم خاصة .. أقول: إن عقل هذه الدولة ليس بهذا الشكل مطلقاً وهو ليس (ولياً) ولا (رجلاً) يأمر فيطيع الجميع ...فما هو إلا القانون، القانون الذي يطيعه الجميع بلا (بوط).

ما قد يحزنني وأنا أكتب هذه السطور، هو ظن البعض أنني أمتدح المحتل المغتصب، ومن ثم فهناك موجة تخوين كبرى لنا نحن القائلين بالتعلم من إسرائيل، في مجالات شتى، يصير الحديث فيها عن المخترعات والعلم والطب والزراعة..الخ، إلا أنني هنا أريد من بلدي التعلم السياسي منها، ذلك من أجل أن يكبر الوطن، فالوطن لا يكبر بـ (البوط) بل بـ (العقل).

أوجه التحية في يوم الجلاء لآبائنا وأجدادنا الذين صنعوا ثورة 1925م ضد المستعمر الفرنسي، ولا أراني إلا وأشاهدهم يخرجون من قبورهم لكي يصفعوا كل من خذل الحرية التي ضحوا لأجلها، وكل من خذل العقد الوطني (اللاطائفي)، وكل نهاب أثيم.

*من كتاب "زمان الوصل"
(239)    هل أعجبتك المقالة (208)

Ali

2020-04-17

الشعب اللي كلو قيادات و زعماء و مفاوضين. الشعب اللي بيلتقى فيه شخص واحد يدافع عن مدينة معرة النعمان. الشعب الذي يستفيق فيجد زعماء كعلوش و مقداد و غيرهم فيقدسهم و يقدم لهم القرابين و يقول عمن يتحدث عنهم ضفدع. الشعب الذي يتفاجأ بكل شئ يحدث حوله. هذا الشعب يستحق بجدارة "بوط"..


التعليقات (1)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي