بين شهر نيسان والقومية العربية شجون، ففيه وضعت الأدبيات الأولى لأشهر الأحزاب القومية، حزب البعث، الحزب القومي الوحيد الذي استطاع أن يصل سدة الحكم في سوريا والعراق ويبقى حاكما لعقود طويلة، وذلك بغض النظر عن الطريقة التي وصل فيها إلى الحكم سواء أكان هو من ركب أصحاب الانقلابات من العسكريين، أم ركبه العسكر وجعلوه واجهة مدنية لحكمهم. يتسع المكان لرأي ثالث وهو أن البعثيين هم أنفسهم العسكر الانقلابيون، وهم بذلك كانوا جناة وضحايا للمدرسة الناصرية "العراب الأول" لزج الجيش في الحياة السياسية وإسقاط التجارب الديمقراطية الفتية في المنطقة.
مع العلم أن السوريين هم أصحاب تجربة الانقلاب العسكري الأول.. انقلاب حسني الزعيم. في شهر نيسان أيضا سقط الجناح "الأيمن" للبعث، نيسان 2003، إثر دخول القوات الأمريكية بغداد وإسقاط تمثال صدام حسين من قبل عراقيين.
أما الجناح "الأيسر" فسقط مع سقوط التمثال الأول في درعا أواخر آذار من العام 2011، على مشارف نيسان بطبيعة الحال. رغم الفارق الشاسع بين دوافع إسقاط التمثالين، إلا أن إشارة ما، يمكن التقاطها من هذا الإسقاط، وكأنها كانت إسقاطا للحالة الصنمية التي فرضها عسكر البعث (البعث باعتباره واجهة حكم وليس حزبا حاكما) على الحياة السياسية واختزالها في شخص السيد الرئيس (الوحيد الأوحد الملهم)، المحاط بأقلية عسكرية مخابراتية اقتصادية دينية، تسعى للحفاظ على كرسي الحكم، حفاظا على مصالحها وربما وجودها كله، مع تمسكها دوما بتقديم خطاب تعبوي يستند إلى "القضية الشماعة"، القضية الفلسطينية التي عُلق عليها الفشل في إحداث النهضة، وباسمها ارتكبت الجرائم.
فكرة القومية العربية، طُلب رأس المنتمي إليها في العراق الذي اقتطع قسم منه –جزئيا- باسم قومية أخرى. ومن ثم باتت هذه فكرة ممجوجة سمجة لدى الشعب العربي وكأنها جرب يجب الابتعاد عنه.
ساهم في ذلك المواقف التي اتخذها دعاتها من ثورات الربيع العربي، وترويجهم غير المباشر للمشروع الفارسي، الذي من المفترض أنه نقيض للمشروع العربي القومي، متلطين خلف شعارات "القضية الشماعة".
وعلى نهج القوميين العرب سار "السوريون القوميون" واختاروا مناصرة الديكتاتور. من مفارقات حالة "التيه" التي نعيشها أن علمانيين عربا، من غير القوميين، نجدهم يتحمسون لتجربة مثل التجربة الأتاتوركية التي بنيت أساسا على الفكر القومي التركي، رغم نسفها للقومية الكردية التي يدافعون عنها في سياق تفاعلها مع القومية العربية، أو مع "الأردوغانية".
"المشروع" القومي العربي، فشل في إنجاز أهدافه المعلنة، ومثله "المشروع الإسلامي" فالإسلاميون أضاعوا الفرصة في مصر، أما في الإقطاعيات التي حكموها في سوريا ضمن ظروف استثنائية، فقد أثبتوا من خلالها أنهم أكثر سوءا من القوميين، فإن كان الحاكم القومي مارس الحكم المطلق، فهم أرادوا حكما "لاهوتيا" يوزعون الناس من خلاله على الجنة والنار.
المشاريع الإيديولوجية الإسلامية والقومية، سعت إلى إنجاز هوية خاصة بها، وتجاهلت إنجاز فكرة المواطنة، والنتيجة أنها قدمت هوية مشوهة ومواطنة معدومة. لكن هل يعني هذا أن الفكر القومي انتهى؟ لا يبدو الأمر كذلك، فما صعود اليمين في أوروبا إلا شكل من أشكال النزعة القومية، ومثلها إغلاق الحدود والخلافات بين دول الاتحاد الأوروبي، فهي مؤشر لأولوية "الحدود القومية" على حدود ما "فوق القومية".
من ميشيل عفلق إلى الجولاني*

*حسين الزعبي - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية