يبررون سكوتهم لعقود، بحجة الخوف من انتقام النظام وبطشه المعهود... هذا ما يتحفنا به كل من انشق عن نظام الأسد، أو غادره ممن كانوا في الصف الأول من حكومة الفساد والبطش، مدعين رفضهم لممارسات السلطة، وأن ما بيدهم حيلة للوقوف في وجهها.
معظمهم تربع على عرش فقر السوريين، وبنى امبراطوريات مال تكفيه لما بعد بعد أحفاد أحفاده، ناهيك عن حياة الرفاهية التي عاشوها في سوريا، في زمنٍ كان المواطن السوري، يعاني شظف العيش، وضيق الحال، وكتم الأنفاس.
فقد حُكمت سوريا بقبضة من حديد، ليس الأسد وحده مسؤولاً عنها، بل أيضاً شركاؤه في الحكم آنذاك.
يترحم بعض السوريين اليوم، على أحد أهم نقاط ارتكاز حكم الأسد-الأب والابن معاً- عبد الحليم خدام، يتغنون بانشقاقه المبكر عن النظام، متناسين بأن له اليد الأكبر بعد الأسد بكل ما وصلت إليه البلاد.
كان خدام ولفترة طويلة جداً، الأكثر قرباً من حافظ الأسد، فقد نال ثقة الرجل المطلقة، فلم يأتمن حافظ الأسد سوى خدام على تسليم الحكم لوريثه -الأسد الابن- وكلنا نعلم جيداً مدى حرص الأسد الأب في انتقاء أعوانه، ومدى صعوبة أن يحصل أحد هؤلاء على ثقته.
هذه الثقة التي لم توضع في أحد كما وُضعت واستمرت لعقود في خدام.
ابن بانياس، ذو المنشأ الفقير، يملك اليوم، ما يناهز المليار ومئة مليون دولار فكيف جمعها هذا المناضل الفذ؟
لن تكون ذاكرتنا قصيرة إلى هذا الحد يا سادة، وانشقاقه عن الأسد ليس لمصلحة البلاد، ولا لوقوفه ضد ممارسات السلطة، ولكنها كانت اعتراضاً على كف يده عن كل شيء تقريباً، وسحب الملف اللبناني منه، والتحجيم الكبير الذي طاله في حكم الأسد الابن تحت مسمى الحرس القديم، وإبعاده عن مركز القرار والفوائد.
يقول قائل بأن خدام لم يكن فاسداً بالمعنى الذي نعرفه، وأن معظم أملاكه تلقاها بصفة هدايا من الشهيد رفيق الحريري وسواه... وهنا لزاماً علينا أن نسأل وهل قدمت هذه الهدايا لسواد عينيه؟
فالذاكرة ما تزال تسعفنا، والتاريخ لم يُمحَ بعد، في حرب 1967 كان عبد الحليم خدام محافظاً للقنيطرة، وهو من كُلِّف بإذاعة بيان سقوط القنيطرة بيد الاحتلال، وسط اتهاماتٍ بأنه دبّر تسليم المحافظة طوعاً للإسرائيليين، بالاتفاق مع وزير الدفاع آنذاك حافظ الأسد.
وفي حرب لبنان كانت له اليد الطولى في إدارة الملف وسط الحرب، فقد كان هو الرئيس الفعلي للبنان حيذاك، فلم تكن الممارسات السورية في لبنان وليدة أفكار غازي كنعان، ولا رستم غزلة، بل خدام كان المهندس الأول والمؤسس لكل ما علمناه وسمعناه عن معاناة اللبنانيين مع التواجد السوري.
وفي الذاكرة القريبة، ماتزال رائحة النفايات النووية تزكم أنوف السوريين، الصفقة التي ربح منها خدام وأبناؤه ملايين الدولات، وحمّلوا القضية لمخلص جمركي أصبح أشهر من النار على علم في سوريا (محمد طبالو).
في نيسان 2001 أجريت تحقيقاً صحفياً لجريدة "الدومري" السورية عن سجن عدرا المركزي، أقيل على إثره مدير السجن آنذاك، وفي زيارتي للسجن أدخلوني إلى إحدى الزنزانات الجيدة، كي آخذ فكرة حسنة عن السجن... فوجئت بالزنزانة الواسعة والنظيفة، والتي تحتوي على تلفاز وجهاز لاقط فضائي (ستالايت) وبراد الحافظ ومجمدة أيضاً، إضافة لمغسلة مستقلة وشباك يطل على ساحة التنفس، وبالطبع من عرف سجن عدرا سيعرف تماماً، أن هذه الزنزانة ليست القاعدة أبداً.
هناك في الزنزانة الفارهة، عرفت أن قاطنها هو السيد "محمد طبالو" الشهير الذي قال لي بالحرف الواحد "استاذه هدول سطالة دهان فاضية اللي دفناهم مو نووي" فاجأتني بساطة الرجل ولم يسمح لي مدير السجن بالبقاء في الزنزانة أكثر من مدة سماعي لهذه الجملة.
علمت فيما بعد أن السيد "طبالوط حمل القضية مقابل بضعة ملايين، ودُبِر أمر تسفيره خارج البلاد، مع إشاعة السلطات بأنه تم نقله إلى سجن تدمر – بحسب تسريبات من مصادر خاصة وصلت لي في ذاك الوقت-.
وبالعودة إلى الذاكرة القريبة، ففي الانفراجة السورية، أو ما أسميناه وقتها ربيع دمشق، كانت آخر معارك خدام في الدفاع عن نظام الأسد الابن، فهو من قاد الحملة الإعلامية والسياسية الشرسة، على نشطاء الحراك المدني، فاستعادت بعدها الجهات الأمنية مكانتها، وأُطلقت يدها بقوة في ملاحقة وسجن أهم رموز الربيع الذين دعوا إلى إصلاحات سياسية والحد من القبضة الأمنية من سياسيين وناشطين معارضين، وكتاب وشعراء ومفكرين ومثقفين.
وفي كلمته في مدرج جامعة دمشق في فبراير/ شباط/2001 استخدم ذات أسلوب الديكتاتوريات، باتهام نشطاء ربيع دمشق بأنهم يجرون البلاد إلى الخراب وبأنهم يريدون جزأرة سوريا أي تحويلها إلى جزائر ثانية مهدداً بحرب أهلية كالتي كانت تشهدها الجزائر في ذلك الوقت.
هذا هو باختصار الراحل عبد الحليم خدام، وتنطبق حكايته على كل أركان نظام الأسدين وإن انشقوا، فانشقاقهم لا طعم له، ولا رائحة، ولا لون، إن لم يعيدوا ما أخذوه من قوت السوريين، ودمهم، ومستقبل أولادهم.
ولا تجوز على الميت إلا الرحمة لكننا سنذكر مساوئ موتانا هذه المرة.
مازلنا نذكر من هو عبد الحليم خدام *

*مزن مرشد - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية