أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

يا كورونا.. إحنا جينا نزور العباس*

تطهير شارع في ضاحية مدينة الصدر بشرق بغداد - جيتي

يشرح "ول ديورانت" في واحد من أهم الكتب البشرية (قصة الحضارة) دور الطاعون في نقل إيطاليا وأوروبا كلها من التفكير الموغل في الغيبية، و حكم (البابا) والإكليروس باتجاه احترام العلوم الكونية.

يقول الكاتب بأن أي زائر عبر البحر في عصور ما قبل النهضة إلى شبه الجزيرة الإيطالية، كان يعد للألف قبل أن يرضى أن تطأ قدماه اليابسة، خوفاً من الطاعون، وبسبب الروائح الكريهة التي كانت تملأ أغلب المدن الأوروبية اللا نهرية، فالأنهار وحدها كانت حلاً لطرح فضلات سكان المدن، بينما في المدن اللانهرية كانت العيشة أكثر من مخيفة.

ملايين البشر قتلها "الطاعون"، بينما كان رجال الكنيسة المعتمد عليهم في حل معضلات البشر، يلجؤون إلى الميتافيزيقيا لشفاء المرضى ولكتابة الحجب، ورش الماء المقدس..الخ!

هذه هي الصورة الحقيقية للقرون الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر، حتى بدأت عقول الناجين من الطاعون ومن الحروب الأهلية، التي فرقت المسيحية إلى طوائف ومذاهب عديدة مقتتلة فيما بينها إلى أن استطاعت العقول التنويرية أن توقظ البشر من غفلة الظن، بأن رب السماء يقبل أو يدعو لترك العلوم الكونية، وبدأ ما يعرف بعصر الأنوار.

عندما أشاهد اليوم في العراق الحبيب خصوصاً تجمعات دينية أمام المراقد، وهم يغنون (يا كورونا..احنا جينا نزور العباس)، وأشاهد آخرين أيضاً من كل الطوائف الإسلامية، يتحدون المرض بالغيبيات..لا يخطر في بالي إلا قساوسة الكنيسة الأوروبية في العصور الوسطى! فكم يبتعد الكثيرون منا عن النهضة الفكرية والعلمية؟..لكن هل "كورونا" بالنسبة لنا، سيشبه طاعون أوروبا؟ ونحن بحاجة له لكي ننهض ونستيقظ؟!

في علم الاجتماع كثيراً ما يعتد بالمدرسة التاريخية، وهي التي اختارتها الفلسفة الألمانية يوماً ما لتفسير الحاضر، وما جئت به أعلاه، فيه اعتماد كبير على المدرسة التاريخية، لجهة المقارنة مع ما حدث في أوروبا، ولكن هناك مدارس أخرى في التفكير تضع ألف إشارة استفهام، ومنها المدرسة التحليلية النقدية، التي تقول إن العقل الأوروبي أكثر مادية بالأصل من عقلنا نحن، ولهذا فإن ما توصل إليه الغربيون من بناء مدني للحياة لن يكون هنا، أو بأن النتائج ستكون مغايرة بنسب معينة.

أورد هذا كله –قارئي الكريم– لكي أحاول وضع يدي على أهم جراحنا الكبرى، وهي جراح الماضي والماضوية، التي لازالت عاملاً حاسماً في حكم حياتنا إلى حد بعيد، وصنع تأخرنا إلى حد بعيد، وأتمنى من أعماقي أن نتعلم من طائفيتنا كما تعلم الأوروبيون، وعرفوا أن المواطنة هي الحل مهما كنت ومهما كان محتدما.

وأتمنى أن نتعلم بأن ما نحتاج هو العلم والعلوم الطبية في كورونا وليس الإصرار على الانتحار دينياً بألف أسلوب !! و لا ضير بل ما أجمل إيمانا يزين الحياة، ويعطيها البعد الأخلاقي، إنما بعقل ودون الوصول إلى علاج التيفوئيد، ووجع الظهر والآن الكورونا بالأحجبة، ولا اللطم على أبواب المراقد اليوم، وهو الذي سيضع تاج الكورونا على رؤوس الحمقى، فيصابون بالعدوى ويمررونها إلى آلاف غيرهم في متوالية حسابية مخيفة!

نحن نعلم بأن كثيراً من المؤمنين، يريدون رؤية علائم السحر الإيماني على أنفسهم، ولقد كنت صغيراً أشاهد في حينا كيف كانت تخرج (النوبة) التي يقوم فيها شخص بإدخال سيخ من إحدى جهات خده لتخرج من الجهة الأخرى، وكيف يمشى آخرون على الجمر، وهناك عشرات الأمثلة، لكن العقل يقول إن إدخال السيخ في لحم جسدك يذبحك، والمشي على الجمر يؤلمك، وفتح فمك للأستاذ كورونا سوف يمرضك، وقد يقتلك، وعليك أن تغتسل وتتطهر وتتبع تعليمات الطب..لأن الاستثناء يثبت كل قاعدة ولو خرج العباس من مقامه لأثخن في عقلك هجواً.

* د. محمد الأحمد - من كتاب "زمان الوصل"
(236)    هل أعجبتك المقالة (266)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي