تغري سطور رواية "خليل الرز" التاسعة بالقراءة، والتي تذكّر بعنوان رواية لـ"سهيل إدريس" وروايات أخرى، فصاحب "سلمون إيرلندي" يرتد على آثار شخوصه وأحلامهم قصصا، ويتتبع مشاعرهم بقص صارم، لكن ما يلبث السرد أن يتحول إلى مكاسرة معانٍ وحقل رموز، ورأرأة المشاهد وذوبانها في بعضها، وتحتاج إلى خبير لتفكيك ألغام الإشارات المدفونة في حقل السرد، فهي مكتوبة بأسلوب سنصطلح عليه اسم الأخيلة المتقاطعة، مقتبساً من لعبة الكلمات المتقاطعة. حيوانات الرواية، كالزرافة التي يبدأ بها الفصل الأول، والكلبة رئيسة بيتروفنا، وهو اسم روسي، على سبيل التعظيم، ليست مثل حيوانات ابن المقفع أو جورج أورويل، فالزرافة زرافة حقيقية، لكنها توشك أن تكون بشراً سويَّا، وهي إحدى أفراد أسرة الحيوانات في حديقة الحيوان الفقيرة المهملة، وهي أسيرة سلم لا أسيرة حرب في قفصها الضيق.
سينزح الراوي المترجم من حياة سابقة إلى سطح داخل الحديقة، فتصير الزرافة جارته، ويشفق عليها هو وصديقته نونا الروسية، وتنشب صداقة بينهما وبين الزرافة، ويشرعان في محاولات تعليمها أبجديات الحياة الطبيعية وأهم فرائضها، التي لا تجوز الحياة بسواها، مثل النوم، فهي تخاف ولا تنام، سيراقبها الراوي، ويكتشف أنها لا تتثاءب، تكشف مخيلة نونا أسباباً لعدم نومها، فهي مولودة في سيرك، وعمياء كما يخبرهما فكتور، ولا تصلح للسيرك، لكن الراوي ونونا سيدركان بالتجربة أنها مبصرة، بدليل أنها تجد طريقها من غير أخطاء وعثرات.
سيكون الراوي قريباً من رئيس تحرير مجلة الحائط في الحديقة، فكتور إيفانتش، والغرفة التي سيسكنها في السطح قريبة من رأس الزرافة، الغرفة هي لصديق قديم اسمه صالح، اختفى في الغوطة مع الثورة. ستبدأ نونا صداقتها مع الزرافة بجرزة بصل، ثم يطفق الراوي وصديقته نونا في عرض مشاهد من الغابة للزرافة عبر التلفزيون، مثل الحيوانات المفترسة ويسمعانها زئير الأسود حتى تستأنس أصواتها وتغالب خوفها.
وسيتصادف عمى الزرافة مع عمى روسي صادفته نونا يوماً أمام المركز الثقافي، ومع عمى الأم، فالزرافة تكاد أن تكون نسخة روحانية من الأم.
ثم ستعرفنا الرواية بشخصية مافيا روسي اسمه بوريا يسيطر على الحي الروسي، ويطعم الحيوانات من الصيد، وليس في الحديقة سوى ضبع وذئبين وثلاثة عقبان وثعلب، والزرافة، التي هي أحد أهم أبطال الرواية، ليس لها اسم، بينما للكلبين اسمان، فهي زرافة لقيطة من سيرك، ويدور حوار بين نونا والراوي عن الخوف، علهما يدركان معناه العميق، فتسأل: لمَ تخاف الخراف من الذئاب ولا تخاف من البشر الذين يأكلونها؟ وتبرق في متن السرد شذرات من القول الحكيم، مثل قول الراوي: أكثر ما ينفرد به المترجم عن باقي خلق الله هو أن العالم لا يستوي في عينيه ما لم يكن في نسختين. الرواية والمشاهد لها نسختان واقعية، ومتخيلة.
تغفل الرواية الصراع التقليدي بين شخصيات الرواية، الحبكة نافلة، إن كانت الرواية في التشبيه الشائع عمارة، فعمارة صاحب رواية "أين تقع صفد يا يوسف"، أفقية بطابقين، واقعي وخيالي، بنسختين، كما قلنا، وأحياناً بثلاث، هي ساحة فيها بيوت طينية، وأكواريوم، وحديقة حيوان، واستديو سينمائي، المؤلف يزدري البنية التقليدية للرواية ويستعيض عنها بتناسخ الأفكار، كما تتناسخ الأرواح في بعض العقائد الدينية.
يبحث الراوي ونونا عن أفضل الغابات لأفكارهما ذاك المساء، فلا يجدان سوى فيلم عن حياة النمل. هناك إيماءات شديدة النعومة ودقيقة الرمزية، عن الحياة السورية، التي لا تعرف سوى الخوف، فلعل حياتنا تشبه حياة النمل.
ستتعلم الزرافة من برامج التلفزيون، والتلفزيون أحد أهم أبطال الرواية، وقد كان بطل فلم حياة السوريين الأوحد، فلم يرَ السوريون في الحقبة الماضية سوى تلفزيون يعرض برامج، إنه الذي علمنا الفرح والحزن، نحن المحبوسين مثل زرافة عمياء في قفص، إذا صحّت هذه القراءة.
لوحات الرواية شعرية، ليس بلغتها، وإنما بروحها وتلميحاتها وتعريضاتها.
تستمر الدروس على التلفزيون حتى تصير الزرافة تستمتع بالأغاني والدعايات، وغدت شيئاً فشئياً مواطنة سورية وهذا تأويل من عندي، تقبل بالأعياد الدينية لمختلف الطوائف، وتشاهد الأخبار والمقابلات التلفزيونية المملّة، لكن ليس مثل نمر زكريا تامر الشهير.
لم يكتب صاحب "غيمة بيضاء في شباك الجدة"، رواية عن الحرب، وإن كانت وقائع الرواية تجري في زمنه، فهو يقوم بتأويل خبراته في الحياة في مخبر الحرب وفرنها على روائح البارود والشواء والبلاستيك المحروق التي يعاني منها "أركادي كوزميتش"، وعلى ضوء نيرانها.
الرواية تشبه بساط الزينة الذي كان يعرض في غرف الضيوف القديمة كلوحة طرية، ومطرزة بمشاهد لا ينتظمها سوى الرقعة، والرقعة هي الحي الروسي. يصبّ الكاتب خبراته وبعضاً من سيرته وأحلامه وأوهامه في هذه الرقعة، فيتذكر أمه ويفرد لها لوحة طويلة في الرواية، حتى تصير أمه هي أم سوريا كلها، وتكاد أن تتحول إلى أم عربية، فهي تزور عدة محافظات لتناثر أولادها فيها، ويتذكر طرفاً من سيرتها، ثم نراها في دمشق موشكة على عملية بتر ساق، وكانت أقدمت على قلب مفتوح، ثم صارت زرافة.
يشاهد الراوي عرضاً لمباراة بالأبيض والأسود، فيما يشبه مسرح اللامعقول لـ"صاموئيل بيكت"، بينما تنام أمه على الكنبة من غير اهتمام بنتيجة المباراة التي جرت قبل خمسين سنة، وتتوازي رؤية مباراتين حديثة وقديمة، فتفرح الأم لهدف قديم، في تماثل بين الحاضر والماضي، حتى أن الزرافة تفرح للهدف. فهي روح الأم.
ويعود الراوي إلى طفولتها، ويصير البكاء أحد معاني اللوحة الكبرى، فأمه الرقيّة تعلمت البكاء من بكائيات العراق، الرقة كانت بلدة عراقية يوماً، والبكاء نوعان، حزن وفرح، ويبلغ القصُّ ذروة شعرية عندما يعبّر الراوي عن حنان الزرافة بفرحها بإحراز إسبانيا هدفا على الأورغواي.
يشدُّ الراوي اللوحات والحكايات بخيوط أوهى من خيوط العنكبوت، وليس بعناصر التشويق والحبكة، لكن خيط بيت العنكبوت أقوى من الفولاذ، سنرى مثلا الأستاذ معين أمين المكتبة، وقد دخلت عليه الكلبة رئيسة بتروفنا، قلنا هكذا اسمها، فيقول في نفسه: إنه لم ير قارئا منذ مدة طويلة، فوجدها فرصة لبعث الحياة في الكتب المكدسة من حوله! ثم يأخذ الراوي الكلبة إلى المسرح، ليصور مشهداً ساخراً، كما ساق الكلبة من قبل إلى السينما، ثم تظهر شخصية قطة عصام في الحي، وعصام مصارع يغلب بوريا الروسي.
الراوي يكتب رواية إشكالية، تجريبية، فيها الكثير من التطريز السردي بالأوهام والأحلام والخيالات. وكدّ الكاتب في النزوح إلى عالم الرموز والمعاني والحيوان هرباً من الحرب. يصير عصام الذي قهر بوريا الروسي بطلاً شعبياً في الحي الروسي الذي تتساقط عليه القذائف، ويقصد الغوطة لأسباب لا تذكرها الرواية.
سنرى في لوحة تالية، في مزج بين أجواء "كافكا" و"ماركيز"، أو الوسط الحسابي الخوارزمي لهما، الكلبة رئيسة بتروفنا الأفغانية، كلبة فيكتور إيفانتش مدير الحديقة، ورئيس تحرير مجلة الحائط في الحديقة، تبحث عن الكلب موستاش، كلب "أبو علي سليمان"، ستقوم بجولة على المكتبة والسينما والمسرح.. ستظهر شخصية "أبو علي سليمان"، وهو معلم سابق، وتاجر حالياً، وعنده زوجتان، يقول لـ"نونا" التي غرقت في الحياكة، إنه معجب بعصفورها، ويحتار الجميع في أمر العصفور، حتى أنها تحتار في مقصوده، ثم نجد أنها قد حاكت عصفوراً على قطعة نسيج لا تعرف ما هي، هل هي لفحة أم كنزة أم قبعة؟ فليس القارئ وحده الذي يفاجأ بمقاصد السرد الطارئة، وإنما أبطالها أيضاً. ثم سنجد في ختام الرواية أنها كانت تنسج غطاء لجثمان عصام الذي مات باكراً في أسفار خيالها.
يكتب فكتور في مجلة الحائط فوائد حياكة الصوف في حدائق الحيوان، ونشهد جهود الزرافة والكلبة في التخلص من النوم بفضل الحياكة، وقد ظل الراوي ونونا يبحثان عن العصفور الذي اختفى حتى وجداه بين غيمتين خضراوين، يقول الراوي: عصفور نونا فكرة واعدة، هو فكرة من أفكار الزرافة.
سنعرف بعد عدة مشاهد روائية تتناسل وتتناسج وتهيم وتستهيم، شخصية عبد الجليل حجازي، الساعاتي والممثل المعروف، الذي سيقتل ذبابة أول ظهوره، ثم تدخل عليه الكلبة رئيسة بتروفنا، فيلحق بها، لأنها كانت تقدّره بوصفه ممثلاً لا ساعاتياً، فيقول لها وقد غابت واختفت كما لو أنه أحسن معرفتها، إنه لولا الشخصيات التي مثّلها، وكلها أنبل منه وأفضل وأدقُّ وأشجع وأجبن وأنذل، وهي كلها، تحتاج إليَّ كما أحتاج إليها، فهي لولا الممثل لظلت حبراً على ورق، وهي واحدة من أجمل عبارات الرواية التي وجدتها، ثم يتبعها إلى السينما، فيجد النازحين نائمين هناك، فهي المكان الوحيد الذي يمكن النوم فيه بعد دمار بيوتهم! فيرى أمامه نابليون بونابرت، على الشاشة، يؤدي دوره رود ستيغر، الذي يشعر بآلام نابوليون بونابرت المهزوم، فيصرخ نابليون: لن أتنازل، فيستفيق طفل نازح من النوم على صراخه المزعج، وينفجر بالبكاء. وتكون طائرة قد أفرعت حمولتها من البارود على الغوطة. فتستوي هزيمة نابليون مع هزيمة النازح السوري، وذلّه مع ذلّه، في سخرية سوداء.
هكذا تتوالى المشاهد والأخيلة في الرواية، ببطء كما في أفلام "أيزينشتين"، وبتجاور، كما في فيلم "بلب فيكشن"، أحياناً مثل فيلم "من أجل حفنة دولارات" في المشهد الأول الذي قصد فيه القتلة الثلاثة محطة القطار لاستقبال "هارموني" الذي تحدى سيدهم، فينشغل أحدهم بذبابة ثم يأسرها بفوهة مسدس، أحياناً مثل فيلم الكاوبوي أبالوسا، وكاميرا المخرج إد هاريس، المقرّبة، الفاحصة التي تصور أسنان الممثلين القلحاء.
سنرى في سرد الحي الروسي: الشذرة، وآلات المسرح، والفن التشكيلي، وروح الشعر المقطرة في مشاهد روائية، وسنجد مشاهد سينمائية ذائبة مثل السكر في الرواية، أسلوب الرواية هو الجناس والطباق الروائي والمشهدي، والإضمار والتوهيم. حيث يذوب دخان التاريخ في سيل الحاضر، ويتماهى الفنُّ بالواقع.
في المشهد الأخير، يعود عصام البطل مقتولاً برصاصتين من الغوطة، قصاصاً لعلاقة محرمة مع رشيدة الراقصة، فيحزن أهل الحي الروسي، ويحتاجون إلى رخصة من بوريا لدفنه، وكان جثمانه قد أودع حديقة الحيوان مع الزرافة، لحين تحصيل إجازة الدفن، وهناك مشكلة أخرى وهي أن نيران المحاصرين في الغوطة تقصف الحي الروسي المعروف بكثرة الملاهي، فيتصدى الممثل الساعاتي "عبد الجليل حجازي" لقيادة الجنازة، وينوي تحويله إلى عرض مسرحي، فيحقق حجازي أمنية إمام المثقفين السوريين وأكثرهم علواً في الأرض والفضاء، فيستعير طبولاً وأجنحة من المسرح لحملة النعش حتى يظهر المشيّعون كالملائكة بأجنحتهم، لولا أن الحوامات تمنعهم من الطيران لطاروا، وتنشأ جنازة كبيرة ملحمية، وهي تتجه إلى المقبرة، وكانت الرزاقة في تلك الآونة قد تحررت من أسرها، بعد تحطم السياج بالقذائف، فتقدمت تتبعها مظاهرة إلى ساحة الأمويين أيضاً، ثم يكون مصيرها القتل برصاص النظام، ويرفع جثمانها بالرافعات الحديدية التي لا ترحم.
قبل أن نختم هذا العرض الذي يحاول أن يستقرئ الرواية، لا بد من القول إن الرواية رواية مثقفين، بل إن صاحب الرواية يحاول الاستعلاء الثقافي، وكان الاستعلاء الثقافي آفة سورية، فالمثقف السوري يهوى أن يكون كاهنا لمعبد، تعويضا عن تهميشه، هو ضد النظام لكنه ضد الشعب، فلم نرَ في الرواية شخوصا يشبهوننا، وبطل الرواية إن كان لها بطل شعبي، فهو عصام، هو البطل الفحل، والبطلة إن كان فيها بطلة، فهي المومس الفاضلة، كما في روايات أسلافه من الروائيين السوريين، والرواية مزكاة للفوز بجائزة "بوكر"، فموقف المؤلف لا يتعارض مع موقف مانحي الجائزة. وفي الرواية مواضع فيها وهن سردي، كان يمكن أن أشير إليها، لا نجدها عند "إحسان عبد القدوس" أو "عبد الحليم عبد الله" مثلا.
أحمد عمر - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية