تكشف تبعات وباء كورونا، وهي تبعات مازالت في مراحلها الأولى، أن الأزمة التي يعيشها العالم، هي نتاج المنهج المادي المتوحش للكتلة المتحكمة بمصير الشعوب، الشعوب التي باتت في العالم الثالث وقودا في محرقة الحاكم، وفي العالم الأول أرقام مستهلكة لما تنتجه تلك الكتلة، حتى لو كان هذا الإنتاج، مجرد لوغاريتميات.
الأزمة التي يعيشها العالم الأول، طبيا، يبدو أنها مشكلة بنى تحتية أكثر من أنها مشكلة صحية خالصة، فالطبيب عندما يكون في موضع المفاضلة بين مريض ومريض، بين أن يسعى لإنقاذ مريض وبين أن يترك آخر ليلقى حتفه، إنما يفعل ذلك لعدم وجود أجهزة كافية لعدد المرضى، رغم أن رقم المرضى حتى الآن لا يفترض أن يفوق قدرة هذه الدولة أو تلك، ولكنه يكشف عن حقيقة أولويات الحكومات في الدول، "المتقدمة" قبل "المتخلفة"..
هذه الأولويات ربما تتسق مع ميول الشعوب نفسها، وإلا ما معنى أن تكون شركات رقمية مثل "فيسبوك" و"غوغل" و"آبل" و"سامسونغ"، التي تعيش أصلا على الميول النفسية للبشر في بحثهم عن سعادة مطلقة لن يصلوها أبدا، تملك من المال ما لا تملكه وزارات الصحة في دول مثل فرنسا وألمانيا وربما معهما إيطاليا واسبانيا مجتمعين.. العالم وفي لحظة صراخه باحثا عن حل، لا يوفر أي فرصة حتى لو كانت "لا أخلاقية"، في سبيل التخفيف من الأعباء التي يفرضها "واقع كورونا".
يروي صديق يقيم في شقة بالعاصمة الألمانية برلين مع رجل إلماني مسن، أن هذا المسن ومع بدء أزمة كورونا أراد أن ينتقل للعيش في جزيرة إسبانية، لم يحالفه الحظ إذ تحولت إسبانيا لبؤرة وباء، هذا الرجل، كما يقول، أراد أن ينتقل ليس خوفا من المرض بحد ذاته بقدر ما هو هروب من خوفه أن يصاب بالفيروس فيضطر لدخول المستشفى، هذا الخوف برره في إجابته على استغراب الصديق، بأن المستشفيات ستضحي بكبار السن.
بدا لي الأمر مستغربا، لكن التجارب التاريخية، وهي ليست بعيدة عنا، تؤكد حدوث مثل هذه الحالات، بل إن تصريحات المسؤولين تدفع باتجاه هذا السلوك، فحاكم ولاية تكساس وبكل وقاحة قال "المسنون مستعدون للتضحية بأنفسهم من أجل إنقاذ الاقتصاد الأمريكي"، هو بصراحة يريد أن تتم التضحية بكبار السن، أي أن تعود الحياة إلى طبيعتها مع وجود هذا المرض وتعود ماكينة "الشركات المتوحشة" للعمل ولا ضير أن يصاب الشباب فالقسم الأكبر منهم سينجون من الموت، ولا ضير أيضا أن يفنى المسنون فهم بذلك، حسب رأيه، يضحون في سبيل الاقتصاد الأمريكي.. هذه الرؤية الفجة لحاكم تكساس، كما هي رؤى معلمه ترامب، يتم تداولها في أروقة المؤسسات التشريعية الأوروبية، وربما تلجأ إليها بعض الدول، ويتردد أن ألمانيا في طريقها لتنفيذ هذا السيناريو، ولكن مع فرض حجر على كبار السن، فهم جزء من الدولة التي تعاني أصلا نقصا سكانيا شأنها شأن بقية دول القارة الأوروبية، فضلا عن أنهم أصوات انتخابية.
الدول الكبرى، القادرة على تحريك أساطيلها الحربية عبر المحيطات في يوم أو يومين، لم تبن، حسب ما يتوفر من معلومات، بعد ثلاثة شهور من الوباء مستشفىً واحداً جديدا (اللهم إذا استثنينا الصين عافانا وإياكم شر طعامهم).
هذه الدول رغم جبروتها تعجز عن توفير كمامات للطواقم الطبية التي يفترض أنها تمثل خط الدفاع الأول عن البشرية.
كل هذا سيكون له ما بعده، ولم يعد السؤال هل سيتغير العالم بعد كورونا، فمن نافل القول أنه سيتغير، لكن السؤال متى يبدأ التغيير الحقيقي؟ لا يبدو أنه بعيد..
عصر التوحش... حسين الزعبي*

*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية