بلهجته الدمشقية المحببة إلى قلبي، تحدث، والسعال يقطّع كلماته: "لك شو كورونا ما كورونا.. ما فيي هيك شي عنّا"، ويتابع بلهجة ساخرة يتخللها السعال: "نحن بس عنّا شوية التهاب رئوي.. لا تهكل همّ.. هلأ هو حاد شوي (يقصد الالتهاب الرئوي)، بس شغالين الشباب الطيبة عليه".
تلك المحادثة مع صديقي الخمسيني في العاصمة السورية، أقلقتني أكثر. لكنها أضيفت إلى قائمة محادثاتي مع سوريين في الداخل، أشاروا إلى جائحة "كورونا" بأسماء مستعارة، مما ذكرني بحقبة ما قبل الثورة، في العام 2011، حينما كان لكل المحرمات، أسماء أو تعبيرات مستعارة، لا يخلو الكثير منها، من حس الفكاهة المرير.
قبل شهرين، حينما شنّ نظام الأسد حرباً على دولار السوق السوداء والصرافة غير المرخصة، بعد أن أغلق أو شدد القيود على معظم مكاتب الصرافة المرخصة، شاعت تسميات مستعارة للدولار في محادثات السوريين.
"الشو اسمو"، و"الحلو"، و"الأخضر"، و"اللي بالي بالك".. إلخ، كانت ردّ السوريين على مرسومين تشريعين صادرين عن بشار الأسد، يشدد الأول منهما عقوبة التعامل بغير الليرة، فيما يجرّم الثاني اعتماد أو تداول أسعار للدولار مخالفة للتسعيرات الرسمية التي كانت، حين صدور المرسومين، أقل من السعر الرائج في السوق السوداء بنسبة تقترب من الثلث.
وفيما لا يريد النظام أن يعترف بوجود وباء "كورونا" في الداخل السوري، مع تضافر المؤشرات والمعطيات التي تؤكد خلاف ذلك، يستعيد السوريون الخاضعون لسيطرته، آلية المواربة، في الحديث عما لا يريد النظام الحديث عنه.
وهي آلية تمرس عليها السوريون، خاصة من أبناء جيل الثمانينات والتسعينات، الذين تربوا على تعليمات أهاليهم الهلعة، بأن "الحيطان لها آذان"، خوفاً من التورط بكلام قد يودي بصاحبه إلى متاهات الأجهزة الأمنية الشرسة، والتي لا ترحم.
قد يحلو لبعض المراقبين أن يعتبروا عودة "الأسماء المستعارة"، وإعادة إحياء آلية "المواربة" وشيوعها مجدداً بين معظم السوريين، في الداخل، بوصفها مؤشراً على نجاح النظام في إعادة بناء جدار الخوف، الذي كسره الثوار في ربيع العام 2011.
"كورونا السوري" والاسم المستعار

فيما يرى آخرون ذلك فناً من فنون التحايل على أجهزة النظام، الذي أتقنه السوريون على مدار عقود خضوعهم لسيطرته، بصورة أكدتها ثورة العام 2011، التي كشفت بأن جدار الخوف الذي أسس له النظام قبل ثلاثة عقود، كان هشاً للغاية، فحافظ الأسد، مؤسس النظام الحالي، عمل بتفانٍ كبيرٍ لبناء جدار الخوف، منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي.
وكانت حملة الاعتقالات والاستدعاءات الأمنية الشرسة، التي عرفها السوريون بعيد مجازر النظام في حماة عام 1982، والتي طالت من يتحدث، وليس فقط من يفعل، تستهدف بصورة أساسية، بناء حاجز خوف متين، يخضع السوريون وراءه. وهو ما حدث، حسبما يرى الكثيرون.
فيما يرى آخرون، أن ذلك الحاجز كان وهمياً، فـ "التورية" وما يرافقها من سخرية في الألقاب المستعارة للكلمات المحرمة، مؤشر للتحايل المؤقت، إلى أن تتغير الظروف، وتتيح قلب موازين القوى، وهو ما حدث في العام 2011، حسب هؤلاء.
إلا أنه يبقى، أن اختلاف الأجيال، بين أبناء الثمانينات، الذين تربوا على مقولة "الحيطان لها آذان"، وبين جيل العام 2011، من أبناءهم، يدفع كفّة الرأي مجدداً نحو متانة جدار الخوف الذي أسسه الأسد الأب، والذي تهاوى، مع تغير الجيل الفاعل، وليس مع تغير الظروف.
هذا النقاش يطرح تساؤلات حول مدى متانة جدار الخوف، الذي يعمل نظام الأسد، الآن، على تأسيسه، مجدداً، في الداخل السوري. فنجاح النظام في التعتيم على تفشي "كورونا"، وعدم خروج أي صوت من الداخل، يتحدث علانيةً عن هذا التفشي، يؤشر إلى أن الجيل السوري الفاعل، اليوم، (من الناحية العمرية)، يخضع لإعادة ضبط، وتأسيس لحاجز خوف متأصل في داخله.
في الوقت نفسه، يبدو أن سيطرة النظام الهشة في مناطق المصالحات والتسويات التي خضعت لسيطرته، مثل درعا، وبنسبة أقل، محيط دمشق، حيث تتعرض حواجزه لهجمات، تدفع نحو القول بعمر قصير جداً، لصلاحية جدار الخوف الذي أسسه النظام، في الآونة الأخيرة. قد يكون أقصر بكثير، مقارنةً بذلك الذي أسسه الأسد الأب. وقد لا يتطلب تعاقب أجيال، كي ينهار.
إياد الجعفري – زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية