لا تصافح أول التعليمات الهادفة إلى تجنب الإصابة بوباء العصر (كورونا)، ومن ثم تأتي بقية مقدمات العزلة التي وصلت إلى حظر التجوال النهائي، وبين كل مرحلة وأخرى لا بد من قصص الموت الرهيب بسبب التواصل البشري الذي لن يتوقف إلا عندما تغلق وراءك باب بيتك راضياً، وأنت تردد هاشتاغات الرضا، وحكمة السوشيال ميديا..خليك بالبيت.
لا سهرات عائلية، ولا حتى صباحيات نسائية فالرجال حاضرون في منازلهم، ولن تذهب يوم العطلة إلى بيت أهلك على وليمة فول مقدسة، ولا فنجان قهوة سريع مع الجار الأقرب إلى قلبك، وحتى الأقارب المزعجون سيبتعدون من تلقاء نفسهم، وحتى عديلك ثقيل الظل لن يطرق بابك مع زوجته وأبنائه السمجين، وأما الوالدة الوحيدة فتقول الصور القادمة من العالم إن الاحتفال بيومها العالمي سيكون عن بعد، أو من على مسافة صحية لأنها كبيرة في السن وسهلة الاقتناص من الفيروس.
لا مقاهي في هذه المدينة التي تمارس سهراتها وهروبها في الزوايا المظلمة، ومدخنو الحشيش سيبحثون عن أماكن أخرى خشية مخالفتهم لقوانين الطوارئ الصحية، وذلك الصخب الليلي سيمسي من الأمس القريب فعلى الجميع أن يدخلوا كهوفهم الجديدة في السادسة مساء، وكشك السجائر لن يستطيع نجدتك بعد منتصف الليل إن فرغت العلب، ونفذ احتياط الدخان المميت.
وحدها أصوات عربات الشرطة تجول بين البيوت الراضية المستكينة الخائفة، والشرفات هي المكان الوحيد الكبير لممارسة هواية النظر إلى التقاطعات المنارة بأضواء الشوارع الصفراء، وثمة كلاب تعوي وقطط تجري بحرية تستحق الحسد.
المحطات تحصي أعداد الموتى في العالم الحر، وبعضها وضع عداداً دائماً للأرقام المتصاعدة في إيطاليا وإسبانيا وأمريكا التي كنت تتوقع أنها كدولة عظمى ستنجو من هذا الحصاد لكنها تدخل سريعاً في القائمة، وأما البلدان الفقيرة فما زالت أرقامها دون مستوى السباق المتسارع، وأما الصين فتخرج من اللعبة منتصرة على فيروسها، وهكذا ستكون مع وجهة النظر التي تتهم الصين بنشر الوباء تارة، وتارة أخرى تمتدح قدرتها على معالجته بصرامة..أهي القيامة يخرج من رأسك فجأة سؤال الإيمان السري.
ستغلق المساجد والكنائس وكل دور العبادة أبوابها، وسيمد المشايخ رؤوسهم في فتاوى الصلاة في البيت وحرق الميت بكورونا، وأما أتباعهم فسيمطرونك بإبداعاتهم الفيسبوكية وسواها عن أسباب البلاء والوباء وآخر أيام الدنيا، ونهاية العالم التي ستخصص لها mbc2 يوماً كاملاً كفيلاً بموتك بجلطة الرعب. تتهاوى اقتصادات الدول، وبرميل النفط في أحط أسعاره، ويرتفع سعر كيلو الثوم بدمشق إلى 4500 ليرة سورية، ويصبح الحصول على ربطة خبز في عاصمة الأمويين إنجازاً، وحراس السلطان سيسهرون وحدهم في الشوارع الخالية حي لا أحد يفكر في الوصول إلى قصر الرئيس أو شارعه الموحش، وأما الشعب فسينام حالماً بوحوشه.
يضيق كل شيء حولك، وأما المؤونة فستنفذ ذات وقت قريب، وأمامك فقط خياران إما الموت جوعاً أو الخروج إلى الوباء..لكنك حتى الآن موقن بأمان الكهف الجديد.
كورونا... بروفة الكهف الأول*

*عبد الرزاق دياب - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية