ينسى الطغاة شكل البلاد التي نكلوا بها، ويؤرخ أبواقه تاريخها منذ لحظة جلوس الطاغية على كرسيه، أما ما سبق ذلك فهو صالح للنسيان والتخوين، ومنذ الصباح ستردد الأجيال كلماته التي ستزين جدران المدارس والبيوت ومؤسسات دولته الصاعدة.
صور الطاغية أيضاً وبكل الأحجام الممكنة من جلاء المدرسة والدفتر النهاري إلى مقرات الحزب الحاكم الأوحد، وذات يوم روى لي أحد مجانين مدينتي الصغيرة أنه رأى بأم عينه صور الرئيس في الحج، وأقسم بالله على ذلك وبروح والده.
حجر الأساس في كل مناسبات العهد الجديد أهم من أي أثر أو بناء تاريخي، ولا يجرؤ أحد على لمسه فعليه صورة الطاغية وشعاراته المقدسة، ونفس الحجر هو إنجاز يجب احترامه واعتباره من لمسات القائد الملهم، وكذلك تعبيد الطرقات، والمستوصفات البدائية، ولقاح الأطفال، والتعليم المجاني، والمناهج التي تجعل الهزائم انتصارات وهي جميعاً من تخطيط الأب القائد، وخططه الحربية وكلماته مناهج عمل أبدية.
الكلمة التاريخية أيضاً التي يطل فيها القائد في عيد الثورة وتصحيحها، وفي أعياد الانتصارات المجيدة، وفي المؤتمرات التي تعيد انتخابه قائداً إلى الأبد، وأما صوره في اللقاءات مع الرؤساء والوزراء وفي القمم المختلفة فهي لإعادة اكتشاف طريقته في الجلوس، وتمجيد دروسه التاريخية لضيوفه عن الوطن وتاريخ المنطقة وكفاحه لتحرير الأرض المغتصبة وعباراته الشهيرة عن فلسطين والجولان.
يد القائد المباركة التي لا تصافح عدواً إلى أن تعاد الأرض هي نفس اليد التي توقع الإعدامات وقرارات الطوارئ والأحكام العرفية، ونفسها التي تعّين الفاسدين وزراء، والمجرمين رؤساء أفرع أمنية، وتشير أبداً إلى الأخطاء والعثرات، وتمسك البلاد من عنقها حتى قبره.
في الحصار يطلب القائد الطاغية من الشعب أن يصبر على بلواه فهو يدفع ثمن مواقفه البطولية في وجه المحتلين والامبريالية، وعلى الشعب أن يستمتع بأحلامه عن الموز ومحارم الورق، وأن يتمتع بالحكمة في تدبير أمور حياته الذليلة، وطوابير الانتظار الطويلة هي أحب إلى قلبه من كل سوبر ماركات الغذاء النظيف المتوفر، ففيها تتجسد كرامة المناضل وبأس تحدياته التاريخية. على الرفاق أن يموتوا ليبقى وهذا ما يحصل منذ صار زعيماً ابن زعيم، وأن يموتوا في كل مكان يراه صالحاً لموتهم المشرّف، وأن يحاربوا إرهاب أهاليهم دون رحمة فهؤلاء شاهدوا خلسة ما لا يجب أن يروه من عورته، ومنذ عشر سنوات تقتلع عيونهم وبيوتهم.
على الرفاق أن يموتوا من أجل الغزاة أيضاً الذين جاؤوا لحماية كرسيه بعد أن عجزوا هم عن حمايته، وأن يتعلموا دينهم ولغتهم، وأن يروا فيهم أخوة وشهداء، وأن الدماء الزكية الطاهرة هي فقط تلك التي تهدر في سبيله.
الأوبئة أيضاً هي دون كرسي الرئيس، ولا تجرؤ على اقتحام مملكة حكمه، ولهذا ليس مهماً أن يموت بعض الشعب في الخفاء لإثبات قوته ومناعته...الأوبئة لا تخلع الطغاة بل تخدمهم.
الوباء في خدمة الطغاة.. عبد الرزاق دياب*

*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية