أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

زوايا أوروبا السوداء.. حسين الزعبي*

أرشيف

محمد حسنين هيكل، قال مرة في سياق تعليقه على حركة اللجوء السورية، إن السوريين أهل هجرة، ‏وهذا الكلام حق وإن أراد الراحل به باطلا، نعم الاغتراب هو حالة سائدة في بلاد الشام عموما، ‏ومن بينها سوريا حيث الكثير من المناطق التي لم يخل بيت من بيوتها من وجود شاب مغترب ‏وربما اثنين أو أكثر، ناهيك عن الهجرات السابقة الذي أخذت صفة الديمومة مثل ملايين السوريين ‏في أمريكا اللاتينية، إذ تشير بعض المصادر إلى أن أكثر من 12 مليون سوري يعيشون في ‏البرازيل والأرجنتين وغيرها، وباتوا من أهل تلك البلاد.

الطفرة النفطية في الخليج التي بدأت بشكل واضح أواخر الخمسينيات، أوجدت في بلادنا حالة ‏جديدة من الهجرة، تشبه الهجرة الموسمية، كهجرة المدرسين خلال العام الدراسي وعودتهم إلى ‏بلادهم في العطل..‏ شكل ثالث من الاغتراب وجد في سوريا وهو الاغتراب التعليمي، كأن ترسل عائلة ابنها للدراسة ‏في دولة غربية، وهذه كانت حكرا على الطبقات الميسورة أو البعض من الطبقة المتوسطة التي ‏تجهد في إنفاق كل ما ادخرته لتغطية تكاليف هذه الدراسة، بالإضافة للقليل من أبناء الطبقة ‏المسحوقة ممن وجدوا فرصة في البعثات العلمية.‏

في العموم الاغتراب الأخير، كان بمثابة حلم ربما لملايين الشباب السوري، فالطبيب المتخرج من ‏جامعة فرنسية أو بريطانية على سبيل المثال، يكفي أن يكتب على لوحة عيادته اسم جامعته ‏ليكتسب سمعة تغنيه عن كل أشكال الإعلان، وما يصح في الطبيب يصح في غيره من ‏الاختصاصات.‏

مع موجة اللجوء الأخيرة، بات ما كان حلما للملايين، واقعا متاحا لعشرات الآلاف، إن لم يكن ‏لمئات الآلاف لاسيما ممن هم في العشرينيات من العمر للالتحاق بأشهر الجامعات في ألمانيا ‏وفرنسا وبريطانيا وهولندا والسويد، مع وجود تعقيدات لا يمكن نكرانها، لكنها بالمجمل هي أقل ‏وأسهل بعشرات المرات من الصعوبات التي كانت تحول دون تمكن شاب ما من مغادرة سوريا ‏بغرض الدراسة في واحدة من الجامعات نفسها، بل لعل في وجود تجارب ناجحة لشباب وصلوا ‏أوروبا عبر البحر ولم يبلغوا العشرين من العمر، حجة على كل من يبرر حالة الفشل في هذه ‏البلاد.‏

"مازن حمادة"، الشاب السوري الذي عانى ما عانى في معتقلات النظام واختار أخيراً أن يعود إلى ‏جلاده، كان يمكن أن يكون في واحدة من هذه الجامعات، وأعتقد أن الأمر كان متاحا له أكثر من ‏غيره.. ‏ لست هنا في وارد تجريمه سواء أكانت عودته فعلا خيانيا مدروسا، أم قرارا بالانتحار "تحت ‏التعذيب"، أو حتى إن كانت العودة تحت الإجبار لفداء معتقلين من عائلته كما يشاع، ولكن الحقيقية ‏الأكثر وضوحا هي أن "حمادة" وغيره ممن أخذتهم الثقوب السوداء في أوروبا هم المثال الأوضح ‏للهزيمة، فإن كان النظام انتصر عسكريا وسياسيا حتى الآن، فمن باب أولى أن يحرص الآخرون ‏على الانتصار على أنفسهم ولأنفسهم.. فقط

*من كتاب "زمان الوصل"
(210)    هل أعجبتك المقالة (229)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي