كان ملفتاً ذلك الخطاب القصير الذي ألقاه رأس النظام، بشار الأسد، يوم الإثنين.
لا في مضمونه، المبتذل والمكرر، بل في توقيته. وكان الملفت في ذلك التوقيت، أنه تزامن، ربما من قبيل الصدفة، مع إصدار الاتحاد الأوروبي، لقائمة جديدة من العقوبات طالت هذه المرة، الصف الثاني من رجال الأعمال المقرّبين من النظام السوري.
ولا تبدو قيمة التوسعة الأخيرة للعقوبات الأوروبية، في نوعيتها، التي لم تتغير من حيث المضمون، بل في استمراريتها وتوسعها، رغم التقدم العسكري الميداني لنظام الأسد وحليفيه الروسي والإيراني، مما يؤكد استقرار السياسة الغربية حيال المسألة السورية، وعدم تأثرها بالتطورات الميدانية الأخيرة، بصورة تطرح تساؤلاً: ماذا كسب الأسد وحليفه بوتين في جولتهما الأخيرة، فعلاً؟ يمكن للمراقبين أن يُجمعوا بدرجة ملحوظة على أن رد الفعل الغربي، الأوروبي – الأمريكي، لم يكن على قدر المأساة المتفاقمة في شمال غرب البلاد، الذي يشهد ربما، أكبر موجة نزوح طوال سنوات الصراع التسع. لكن في الوقت نفسه، يمكن حين التدقيق في رد الفعل ذلك، أن نتوقع أن بروده في الجانب الأوروبي تحديداً، سيثير المزيد من الغضب في الكرملين، الذي يعمل جاهداً، منذ أكثر من سنة ونصف، لجرّ خصومه الغربيين إلى نقطة الإقرار بالأمر الواقع الذي فرضه في سوريا، والقبول بنتائجه، والتطبيع معها، كما هي، ووفق الشروط المفصلة على مقاس المصالح الروسية – الأسدية، بالمحصلة. تلك الغاية بالذات، نُقضت في التوسعة الأخيرة للعقوبات الأوروبية، كما أنها تعرضت لتهديد، ما يزال غير واضح المعالم، جراء انعطافة أمريكية قد تهدد الطموح الروسي في سوريا، أو تلجمه، في أقل الحدود.
فواشنطن تلمح إلى دعمٍ ما، قد يتم إحياؤه مجدداً، للمعارضة السورية، عبر تركيا. كما أنها تهدد باقتناص الفرصة للانقضاض على سنوات من التقارب الروسي – التركي، وجلب الحليف التركي مجدداً، إلى جانبها. بكلمات أخرى، لا قيمة حقيقية للتقدم الميداني الذي حققه الروس، في الجولة الأخيرة. وهو ما يؤكده ذلك التسجيل الذي بثه إعلام النظام، للأسد، متحدثاً عن "انتصارات" يحتاجها داخلياً، كوسيلة لتخدير الخاضعين له مؤقتاً، عبر الإيحاء بأن هذه "الانتصارات" ستكون مقدمة للانفراجة المأمولة في أوضاعهم المعيشية، وهو أكثر ما يهم القابعين تحت سيطرة النظام وحلفائه، أكثر من أي شيءٍ آخر.
لكن، دعنا نعود بالذاكرة إلى الوراء، قبل أكثر من ثلاث سنوات، حينما تم الترويج لاستعادة شرقي مدينة حلب، على أنه طوق النجاة الأبرز للنظام، وأنه سيكون الخطوة التي تسبق إعادة إحياء عصب الصناعة السورية في المدينة.. لتتلوها ثلاث سنوات، زخرت بالبلاء المعيشي والأمني على سكان المدينة، الذين عانوا من تهميش كبير في سياسات حكومة النظام على صعيد الخدمات والبنية التحتية والضبط الأمني، بصورة جعلت السنوات التي تلت السيطرة على شرق المدينة، تمضي، دون أي تغيير نوعي على الوضع المعيشي، يتلمسه سكان تلك الحاضرة العريقة في سوريا.
وليس بعيداً في الذاكرة، يمكن أن ننتقل إلى دمشق، التي قِيل الكثير لحظة استعادة السيطرة على غوطتها، في ربيع العام 2018، بوصفها اللحظة التي ستوضع معها عاصمة البلاد على سكة إعادة الإنعاش مجدداً.
فلا قذائف هاون ستطاول أحيائها، بعد الآن، ولن تكون هناك ضرورة لتعقيدات الحواجز الأمنية التي تقطع شرايينها، بعد ذاك التطور.
لكن ما حدث في سنةٍ ونيف، تلت ذلك، أن الكثير من سكان دمشق، ترحموا على أيام القذائف، علناً، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، جراء التدهور المعيشي الذي كان متسارعاً، عقب "تحرير" مساحات واسعة من البلاد، من "الإرهابيين"، وفق قواميس لغة النظام، وإعلامه.
وبعد أقل من سنة من استعادة ريف دمشق بالكامل، وريف حمص بالكامل، ودرعا، خرج رأس النظام شخصياً، ليقرّ بأن فقدان الإيرادات الدولارية التي كانت تفد على تلك المناطق، دعماً للمنظمات العاملة فيها، حينما كانت خارج سيطرة النظام، كانت سبباً رئيسياً في دعم الليرة، وضخ الدولار في شرايين خزينة النظام، التي جفت بعد نضوب ذلك المصدر، مما أدى إلى تراجع متواصل لليرة، ترافق مع صعوبات شديدة في توفير الموارد المالية لإعادة تأهيل البنى التحتية المدمرة للمناطق التي تمت استعادتها، ناهيك، عن الصعوبات المتفاقمة في توفير مصادر الوقود، جراء العقوبات الأمريكية على إيران، في وقتٍ لاحقٍ.
وليس بعيداً من تلك المرحلة، دعنا نذكر ذلك التهليل الإعلامي المبالغ فيه، الذي رافق افتتاح معبر نصيب، بين الأردن وسوريا، بعيد استعادة النظام السيطرة عليه، والذي قِيل الكثير عن المكاسب المالية الهائلة التي ستنجم عن تجارة الترانزيت التي ستعبر مجدداً، منه. لكن بعد سنة واحدة فقط، من ذلك التاريخ، أقرّ مسؤولون في حكومتي النظام والأردن، بخيبة الأمل، جراء المردود المحدود الذي أدخله معبر نصيب لخزائن البلدين، ناهيك عن عدم تلمس أي أثر حقيقي له، على اقتصاد الطرفين، وذلك لأسباب واضحة وجليّة، تتعلق بالفيتو الأمريكي الذي وصل إلى المسؤولين الأردنيين، حيال فتح شرايين التجارة على مصراعيها، مع نظام الأسد، عبر المعبر، أو عبر أية أروقة أخرى للتعاون. فكانت الحصيلة محدودة، ومخيبة لآمال الطرفين. وهناك يُطرح التساؤل: ما الفرق بين حصيلة معبر نصيب، المخيبة للآمال، وبين الحصيلة المرتقبة لإعادة تأهيل وافتتاح طريق دمشق – حلب الدولي، ما دام الترانزيت الدولي لن يسير على إسفلته؟! وما الفائدة من استعادة معظم الريف الغربي لمدينة حلب، ما دام لا توجد موارد مالية لإنعاش المدينة وريفها؟، وما دامت العقوبات الغربية تطال أي رجل أعمال ينشط لصالح نظام الأسد، أو يتعاون معه؟ باختصار، ما حدث في الجولة الأخيرة مجرد إنجاز ميداني جديد، تمكن نظام الأسد من تحصيل أضخم منه، بمرات، خلال السنتين الفائتتين، بدعم سخي للغاية من ثاني أقوى قوة عسكرية في العالم، بالتزامن مع تخلي الغرب عن المعارضة ميدانياً، دون أن يتحول ذلك إلى إنجاز سياسي – اقتصادي مُستدام، يريح الداعم الروسي، ويطمئنه بأن استثماراته العسكرية السخيّة، لن تذهب هباءً، وأنه لن يحصل على سوريا، جثة هامدة، يعجز بموارده الذاتية عن إعادة إنعاشها، وتأهيلها مجدداً، بالصورة التي يأملها، كي تليق بـ "انتصارٍ" يفاخر به أمام شعبه، وفي سجله التاريخي. تلك الغايات التي يجاهد "قيصر روسيا"، منذ العام 2015، كي يصل إليها، لا تبدو قريبة المنال. فما حصل عليه حتى الآن، أشبه بـ "فرانكشتاين".. كائن أُعيد إحياؤه عبر جمع أشلاء من جثث أموات.
لكنه كائن مشوّه، ومقزز، يجلب الحسرة على قلب من أعاد إحيائه، فمع الفيتو الغربي على إعادة تأهيل "فرانكشتاين دمشق"، يستحيل أن تزول تلك التشوهات العميقة، الجليّة في وجهه.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية