تفرض الحركة الاقتصادية في المدن الكبرى، التي يمكن تسميتها مدنا تجارية، وجودا فاعلا لشريحة التجار ورجال الأعمال، ليس فقط لجهة الفعل الاقتصادي، بل كذلك في رسم خريطة المجتمع وحركته، وهذا ليس حكرا على بلد بعينه بل هو ديدن التجمعات السكانية الكبرى في كل دول العالم.
في سوريا التي لها طبيعة "محافظة" ينضم رجال الدين في المدن الكبرى إلى شريحة التجار في عملية التأثير المجتمعي وربما يتقدمون على التجار في هذا الدور أو أن التجار يتراجعون ليضعوهم في الواجهة فهم، أحيانا، أكثر "كفاءة" في ميدان إدارة مجتمع تحضر فيه العواطف الدينية بشكل واضح. تزداد هذه "الكفاءة" تأثيراً في المجتمع مع غياب المثقف القائد للرأي للعام، أو تراجع دوره وتأثيره لأسباب كثيرة منها ما هو ذاتي يتعلق بالمثقف نفسه، كحالة التقوقع والبعد عن الاحتكاك المباشر بالمجتمع وفهم السياق التاريخي لحركته والعوامل المؤثرة في هذه الحركة، ومنها ما هو موضوعي كدور السلطة في تهمشيه ومحاربته والبطش به إن لزم الأمر، من دون إغفال الدور غير المباشر للشريحتين، التجار ورجال الدين، في التهميش والمحاربة.
في المجتمع الدمشقي على سبيل المثال يتمتع رجال الدين بأريحية معيشية مكنت الكثير منهم من السكن في شقة ضمن تنظيم كفر سوسة ثمنها 70 مليون ليرة، يوم كان الدولار يساوي 50 ليرة، بينما كان يجهد "مثقف" للانتقال من العيش في مناطق العشوائيات على أطرف دمشق إلى شقة على الأقل ضمن مناطق مُنظمة، فلا القوى الاقتصادية أدت دورا إيجابيا في تعزيز ما هو ثقافي، اللهم سوى شراء ذمم بعض الصحفيين ودعم بعضهم بالفتات، ولا رجال الدين أخذوا المجتمع إلى منطقة أعلى لجهة الوعي، وفي كل هذا ما جعل السلطة السياسية الأمنية في راحة بال.
هذه السلطة الأمنية، عندما أزفت ساعة الحقيقة، لم تجد أكثر منهم وفاء لها، ففي اللحظة الفارقة التي انتفض فيها المجتمع للمطالبة بأبسط حقوقه، تحول رجال الدين والتجار، إلا من رحم ربي، ومعهم من تم شراء ضميره من "المثقفين" إلى دروع تصد عن النظام وتصوب سهامها المسمومة على الشعب. بالأمس تداولت وسائل التواصل الاجتماعي صورة منسوبة لمجموعة من مشايخ حلب وهم يتبرعون بالدماء لجيش النظام بعد إعلانه السيطرة على حلب، كانت كروشهم منتفخة، ووجهم كذلك، وقد بدت عليهم ملامح من لم يمسسه هم، أي هم من هموم المأساة السورية.
محزنة سوريا بمدنها الأقدم في التاريخ الإنساني أن تبقى خاضعة لثالوث غير مقدس "ديني، تجاري، أمني".
الثالوث غير المقدس... حسين الزعبي*

*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية