لا تستغرق المسافة الزمنية بين حيي الميدان والقابون في دمشق إلا دقائق قليلة ولكنها تحولت في يوم رمضاني حار من عام 2012 إلى زمن ثقيل الوطأة بالنسبة للمئات من الفارين من الموت والجوع والحصار ليتم وضعهم أمام دبابات النظام كدروع بشرية في منطقة "القابون"، ومن هؤلاء كانت الشابة "نجلاء شعلان" التي شاءت الإرادة الإلهية أن تنجو لتواجه فيما بعد مواقف أكثر صعوبة ومنها اعتقال زوجها الذي استشهد فيما بعد لتظل ذكرى تلك الأيام الأليمة ماثلة في ذهنها رغم أنها تحاول التغلب عليها بالصبر والأمل.
تخرجت "نجلاء" من كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق عام 2008 وعندما اندلعت الحرب كانت تتهيأ لدراسة الماجستير وعملت منذ العام 2004 في عدة مجالات ومنها (تصميم كتب أطفال ورسوم للمجلات ) (انيميشن) في شركة النجم وديكورات وتصاميم هندسية لعمارات إسلامية ثلاثية الأبعاد وتصاميم إعلانية لشركات إحداها فرنسية، وفي الوقت ذاته كانت تدرس مادة الفنون لجميع الأعمار في معهد إعداد المدرسين ومدرسة "بلقيس" وبعض المدارس الإعدادية والثانوية أول الأحداث 2011.
كانت "نجلاء" تعيش مع أهلها في "الميدان" بمدينة دمشق واقترنت بزوجها وبدأت بالعمل معه في الإغاثة الإنسانية (أغذية وأدوية) بالإضافة لتعليم الأطفال المحرومين من التعليم بسبب قصف المدارس في المناطق المتوترة، وكان التعليم –كما تقول- يجري في مسجد لتلاميذ المرحلة الابتدائية، واضطرت أن تسكن في سكن ملحق بالمسجد الذي كان يحوي قسماً طبياً للحالات الطارئة.
وتروي محدثتنا أن المسجد المذكور كان يتعرض للقصف بشكل شبه يومي، وكان هناك دائماً "شهداء ومصابون وشهدت العديد من المجازر حينها والقصف بالسلاح الكيماوي وتجاوز عدد الضحايا في كل مجزرة 100 ضحية".
وكادت "نجلاء" أن تكون إحدى الضحايا بعد استنشاقها المواد السامة لولا أن تم إنقاذها بالأوكسجين، كما سقط جدار المسجد عليها مرة جراء قذيفة راجمة وتم انتشالها من تحت الأنقاض، وشهدت مجزرة للأطفال راح ضحيتها 12 طفلاً تراوحت أعمارهم بين السنة ونصف والعشر سنوات كانوا يلعبون معاً في الحي، وحينها -كما تقول- سقط برميل متفجر ألقته طائرة تابعة للنظام على حي "القابون"، وكانت في حال صدمة من رؤية أجساد الضحايا الصغار الممزقة ومنهم من لم تُعرف أشلاؤهم.
بعد فترة أجرى النظام هدنة لأهالي المنطقة زاعماً أن الجيش سيمهد لهم الطريق للخروج فوجد الأهالي في الخروج نجاة من الحصار والموت والجوع الذي يعيشونه كل لحظة.
وتروي "شعلان" أن يوم الخروج كان أشبه بيوم الحشر حيث كانت السيارات ممتلئة بالنساء والأطفال وكثيراً ما كان بعضها يتعرض للقصف بصاروخ من الراجمات التي لم تهدأ تلك الأيام والكثير من السيارات احترقت بمن فيها حينذاك.
في صندوق خلفي لسيارة "بيك آب" جلست "نجلاء" مع 3 نسوة وعدد من الأطفال وكانت قذائف الهاون وصواريخ الراجمات تتساقط بالقرب من السيارة وتنفجر في كل دقيقة فتزلزل الأرض وشبابيك السيارات التي يكاد زجاجها يتكسر من الشظايا وبعض الطرقات كانت مغلقة بسبب الدمار مما اضطر السائق –حسب قولها- إلى العودة من حيث أتى.
في طريق العودة سمعت "نجلاء" ومن معها في السيارة بعد توقفها صوت إطلاق صاروخ من جبل قاسيون وكأنه باتجاههم حينها "تشاهدوا" -حسب قولها- وهربوا من السيارة وسقط الصاروخ فوقهم لتتساقط الأنقاض عليهم أثناء ركضهم للاحتماء منه وحينها وجدت طفلة في الخامسة من عمرها هرب أهلها وظنوا أنها قد أُصيبت فتمكنت من حملها والإيواء إلى قبو مبنى للاحتماء به.
وتمضي "نجلاء" ساردة فصول الجحيم الذي عاشته ذلك اليوم وكأنها تستعرض شريطاً سينمائياً إذ عاد السائق ليأخذهم في الطريق ذاته وتمكنوا من الوصول إلى أقرب مكان للخروج من المنطقة، وكانت المسافة –كما تقول- لا تستغرق أكثر من عشر دقائق ولكن بسبب كثافة الناس الفارين والسيارات والأنقاض استغرقت أكثر من ساعتين، وخوفاً من القناصين اضطروا للسير بمحاذاة جدار فيما كانت طائرة هليوكبتر تحوم فوقهم وتضرب كل شيء متحرك، وكانت المرة الأولى التي ترى فيها الطلقات من الهلوكبتر التي كانت طويلة ومرعبة مما سبب لها رعباً رهيباً –كما تقول- ورأت في الطريق أناساً ماتوا بالقنص أو شظايا الهاون أو رصاصات الهليوكبتر.
لدى وصولهم إلى حاجز جيش الأسد الذي كان يحاصر حي "القابون" بـ 3 دبابات كانت الساعة قد قاربت الواحدة ظهراً في الثالث من رمضان وكانوا صائمين والطقس حار، واعتقدت "نجلاء" واهمة أن الجيش لن يؤذيهم وسيؤمن خروجهم إلى أماكن آمنة، ولكن الصدمة كانت حينما طلب عناصر النظام منهم الجلوس على الأرض المرتفعة الحرارة، وكانت الدبابات تقصف على القابون ولم تكن المقاومة قادرة على الرد بسبب وجودنا كدروع بشرية وكل من كان يرجوهم السماح بالخروج كانوا يطلقون النار عليه.
وروت محدثتنا أنها رأت بعينها رجلاً مسناً كان يتوسل إليهم الخروج وحينها بدأ أحد عناصر النظام يشتمه بألفاظ سيئة وضربه بكعب بارودته على ظهره إلى أن سقط جثة هامدة، وهدد العنصر القاتل الباقين من المدنيين بالمصير نفسه إن فتحوا افواههم.
وبعد ساعات مريرة تمكنت "نجلاء" من الخروج مع عائلة وبقي الآخرون إلى اليوم التالي، وبعد شهر التقت بزوجها الذي تمكن من الخروج من حي "القابون" وخرجا إلى اسطنبول حيث بقيا شهراً و18 يوماً ليعودا بعدها إلى دمشق لتدبير بعض الأمور وعندما قررا العودة ثانية تم اعتقال زوجها على الحدود اللبنانية بتاريخ 9 شباط 2014 وعادت مكلومة ومنكسرة إلى دمشق لتبدأ رحلة البحث عن مصير زوجها الذي وصلها خبر وفاته تحت التعذيب في سجن "صيدنايا".
وتعيش نجلاء الآن في تركيا تعمل كمدرسة فنون في مؤسسة "حدودنا السماء" مع طفلها الذي كان جنيناً أثناء اعتقال والده وأصبح في السادسة من عمره الآن متسلحة بالإرادة والصبر والأمل بأن يكون الغد أفضل لأبنائنا ومحاولة نسيان أهوال الحصار والموت التي عاشتها قبل سنوات.
فارس الرفاعي - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية