أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

مشهدان للموت الشتوي السوري.. عبد الرزاق دياب*

مشهدان للموت يمران كأنهما حدث لا يستحق مجرد القراءة - جيتي

لن يتوقف أحد أمام مشهد الطفلة المتجمدة في "عفرين"، وربما تخرج عبارة أسف عابرة لا أكثر ممن بقي لديهم قليل من إنسانية نافقة، وحتى أبناء جلدتها اعتادوا مشاهد الموت وأدمنوها، وأما بقية إخوة الوطن فهم إما غارقون في تأمين اسطوانة غاز، أو يستعدون لموسم عيد الحب المنتظر.

في مشهد آخر تموت عائلة بكامل أفرادها مختنقة بفحم الدفء، وهي محاولة أخيرة للحياة في لحظة كان يعتقد الأب فيها أنه يصنع نوماً مختلفاً، فكانت ليلة دافئة لأجساد تسلل إليها برد الموت، وأيضاَ سيرفع البعض أكف الضراعة بان يتوقف هذا الموت من كل حدب وصوب. آلة قتل النظام الوحشية تستمر في طرد السوريين، ولا تخدش حياء القاتل صورة طفل يرتجف برداً، ولا الخيام المتكاثرة قرب حدود أعدائه، ويعلو بين مؤيديه صوت الانتصار على الأغيار السوريين الخونة، ويتباهى المجرمون بنبش القبور الآمنة وحدها في مكان يعج بالموت. وبصوت خافت ومحشو بالرياء سيخرج قادة المعارضة السياسية للتعبير عن غضبهم من العالم الذي تخلى عن السوريين، وعن تعاطفهم مع المهجرين الجدد، وبجانب مكيفات الغاز في مدن العالم الهادئة سيأخذهم نوم طويل، وأحلام وضيعة عن المال والكراسي البديلة، وبعض الزيارات الخاطفة لقبور من ماتوا هاربين بأرواح أبنائهم، وأناشيد ولاء مختلفة.

معارضون مسلحون يتوعدون بنصر قادم، وتغريدات محمومة يليها دمار جديد، ومدن محروقة اخرى، وعشرات الآلاف من التائهين باتجاه المجهول، واتهامات متبادلة بين فصائل ترفع رايات متعارضة، وبين كل هؤلاء ينظر الأمير المتواري بصلف وتعالِ كما لو أنه مفتاح الدخول إلى جنة الهلاك النهائي.

العالم العربي لن يجزع من موت مختلف للسوريين فقد اعتادوا الرثاء وهم أهله، ومن بينهم من ينظر إلى موتى البرد والتهجير على أنهم إرهابيون، ويتمنون نصر الجحافل الطائفية في احتضار وانحطاط الأخلاق أمة تخرج في هذا الزمن أسوأ ما فيها.

بقية العالم أغلق أبواب إنسانيته مذعوراً من فوبيات التطرف والأسلمة والمهاجرين، وأما الساسة فيرون في الموت وجهة نظر سياسية وربما في تعاظم الجريمة هدفاً منتظراً، والقتيل والقاتل من جنس واحد متخلف يتناحر في حرب أهلية ستنتهي ذات يوم بإبادة طرف لآخر، وقد يستفاد من دمهم في تلويث أيادٍ أخرى تتصارع فيما بينها لتأريخ هولوكوست شرقي.

مشهدان للموت يمران كأنهما حدث لا يستحق مجرد القراءة، وفي الخفاء حكايات أشد وطأة غابت مع الركض خلف نجاة مؤقتة لا تلبث ان تصبح فاجعة، وجميعنا دون استثناء شركاء في استمرار هذا الموت السوري بكامل فصوله، وهذا الشتاء الذي يجهز عليهم ما هو سوى فصل آخر موت يدين كل من هو على قيد الحياة.

*من كتاب "زمان الوصل"
(207)    هل أعجبتك المقالة (222)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي