يترك الهاربون من الموت كلَّ ما ثَقُلَ حَمْلُه. حتى الثمين من الأغراض يتركونه، ليفسحوا المكان الضيِّق في سيَّاراتهم الصغيرة للحاجيات الضرورية جداً من بطَّانيات وأفرشة إسفنجية وملابس شتوية بات مُقدَّراً لها أن تبذل جهداً مضاعفاً في ظلّ نقص الخيام التي صارت حلماً بعيد المنال للكثير من العائلات المهجَّرة والمقيمة في العراء.
في الآونة الأخيرة، راحت تتسلَّل بين تلك الأغراض الخفيفة جداً والضرورية جداً بعضُ الصخور الثقيلة غير الصالحة للاستعمال في شيء: ألواح رخامية لا يمكن لمن لا يجيد القراءة باللغة العربية أن يفهم سبباً يدفع هارباً من الموت إلى أخذها معه.
هيَ شواهد قبور الأحبَّة التي راحت بعض العائلات تصطحبها معها في رحلة التهجير الطويلة.
هيَ شواهد قبور الذين يعيشون حياتهم الثانية في قلوب عائلاتهم.
إنَّ أُمَّاً وأباً يحملان شاهدة قبر ابنهما الشهيد سيقولان لك بأنَّ هذه الشاهدة هي وسيلة تدفئة أيضاً. إنها موقد من نوع خاصّ. إنَّ الجلوس بقربها يبعث حرارةً فائضةً في القلب، وإنَّ لمس حروفها المحفورة في الرخام، بين فينةٍ وأُخرى، هي كمن يرمي حطباً في النار.
سيقول الأخُ والأختُ إنَّ شاهدة قبر أخينا هي بطانية دافئة للروح في هذه الرحلة الصقيعية نحو المجهول.
وسيقول الابنُ والابنةُ إنها ما تبقَّى من الحضن الدافئ لأبينا.
هكذا، ومن هذه الزاوية فحسب، يستطيع منظرُ الشاهدة الصخرية الباردة، وسط البطانيات الدافئة، أن يغدوَ أكثر منطقيةً.
*شاعر وكاتب سوري - من كتاب زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية