لم يعد هؤلاء كما كانوا، وفجأة خبت عبارات التهليل، وكذلك طلاسم المواساة التي تأذن بخسارة منطقة جديدة، وحتى تلك الشطحات الحالمة بمعركة قادمة تعيد ما ضاع لم تعد ترسم ملامح الأمل الذي يتهاوى، ومنذ بداية معركة إدلب اختلفت لغة الحالمين بالتغيير وفق مواسم الوعود الكاذبة.
بالأمس كتب أحدهم (البقية بحياتكم إلى اللقاء في ثورة قادمة)، وكأنه بها يختم عشر سنوات من الدم، وايام مديدة من هتافات الأمل بالخروج من سلطة البعث الغاشمة، وراية استسلام بيضاء تنتصب فوق سيل الدم الذي لم يتوقف بالرغم من شبه نعوة لأحلام المنتفضين.
يبدو اليأس مختلفاً في كلمات الخارجين من بيوتهم عنوة، كانها النهايات التي لاعودة عنها، وحتى المدينة التي وثقت لوحات الأمل سكنت، وجداريات (سراقب) تركت وحدها تعاني بانتظار فرشاة طلاء سوداء تشطب ألوان الأمل...هكذا كانت تشي وجوه الفارين عنوة.
أتابع عن بعد سيل رسائل اليأس التي تأتي بعد كل مجزرة يرتكبها النظام، وهذا التردد الكبير في وصف صورة المشهد الذي طالما كان جسر أمل، وسقوط قرية أو مدينة ما كان ليشعل كل هذا الأسى كأنها النهايات توضع لملحمة شعب أراد له العالم أن يحشر في بقعة أرض تشبة قبراً قد تم اشترك الجميع في حفره.
لماذا هذه المدينة بالتحديد، لماذا إدلب اليوم يراد لها هذا المصير، وهكذا ببساطة لا ينتبه العالم لكل ما يجري، ولا أحد سوى المخذولين يحدقون في عيون الرعاة والحماة والذين ضربوا على صدورهم، وأخذوا منهم العهد، ولهذا نظرة الذهول من فرط ما يحدث هناك حيث تتداعى الأرض إلى حدود الجيران ومعها كل هذا المسير الطويل للخارجين من بيوتهم إلى الجدار الأخير. حوارات الأيام القليلة الماضية أفرغت كل مخاوف وخلافات المعارضين، وسيعلن أحدهم أنه قد حذر من هذه المأساة من أول لحظة توافقت فيه هذه الفصائل والكتل السياسية مع الروس على قبول الهدن ومن ثم المصالحات والخروج إلى الشمال، وسيرد عليه آخر بأن ما يحصل هو نتيجة لخديعة الأتراك لكم، ويصرخ ثالث بل هو صوت (الإخوان) الخائب الذي خذل الجميع بانتهازيته المعهودة، وأصوات تشتم العالم والعرب وذاتها.
البسطاء يودعون بيوتهم، ويقبلون جدران الدفء والأمان التي تضيع، وتأتي الصور الفجائعية عن دروب الهاربين بلا جهات فقد انتهت الجهات، ولم تعد أخبار الانغماسيين والمفخخات التي تحسم المعارك تجعل هارباً يلتفت إلى الخلف، وفقط وحده هذا الجبل من الخذلان يهيمن على الوجوه، والخلاص يعني انتهاء هذا الركض بأي نتيجة كانت.
حافة إدلب فضحت ما كان يخفيه الجميع، وثمة توافق على النهايات بين القاتل والمقتول، وكلاهما يعتقد في قلبه أنها الهزيمة فالقاتل لم يعد لديه مزيد من الضحايا ليشبع غريزة الدم، والقتيل أثخن موتاً وهروباً، وعلى هذه الحافة بالذات يهزم الجميع..هنا إدلب حافة الهاوية القادمة وليست الأخيرة.
المهزومون على حافة.. إدلب*

*عبد الرزاق دياب - من "كتاب زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية