لن أطلق رصاصة الرحمة كما فعلت الغالبية على صفقة القرن أو خطة السلام الإسرائيلية، لأن الرئيس الفلسطيني محمود عباس نفسه لم يطلق تلك الرصاصة، حين قال إنها تحمل جديدا، إلا إذا كانت هذه الصفقة لا تقبل التفاوض، فهي تكون منتحرة برصاصة بيت نارها، وهذا ما سأحاول الإجابة عليه بما ترشح عن هذه الخطة.
تبدو دولة فلسطين في خارطة صهر الرئيس الأمريكي كجزر متراشقة تصلها جسور وأنفاق، غير أن ما يفصلها ليس بحرا، بل أراضي من المفترض أن تكون إسرائيلية، أرخبيل فلسطين الأقرب واقعيا إلى أرخبيل الفيليبين، لن يكون صالحا لتمرير صفقة يقال عنها إنها ستأتي بالسلام والازدهار إلى المنطقة لأسباب عديدة، أولها وأعقدها هو أن هذا الأرخبيل المنزوع الجيش والسلاح والسيادة، سيكون على سكانه الحصول على آلاف الأذونات للعبور من عشرات المعابر التي تستطيع إسرائيل أو يتوجب عليها خلقها، بينما هو نفسه هذا المواطن الفلسطيني يعاني اليوم من بضعة معابر فقط!.
مشكلة الغرب الدائمة في كل مشاريعه في المشرق هي أنه يهمل الجانب الأهم في مشاريعه وهي الأرض والإنسان حيث تلك المشاريع، فمثلا لا يمكن معالجة منطقة تسودها الحروب بزيادة إنتاج السلاح، أو بالتدخل العسكري المباشر، كما لا يمكن معالجة مشكلة عودة اللاجئين الفلسطينيين باتفاق يقول إن لاعودة لهم، في حين يتم منح المواطن اليهودي في أي دولة في العالم جنسيته الإسرائيلية على الهاتف، في حال قرر الهجرة إلى إسرائيل.
أميل إلى تصديق كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات الذي قال بعيد الإعلان عن الصفقة إن لديه وثائق تثبت أن الخطة الموضوعة تعود لمسودة مبادرة إسرائيلية قدمها نتياهو إلى البيت الأبيض عام 2012، وان صهر الرئيس ترامب جاريد كوشنر، لم يكلف نفسه أو مستشاريه (إن وجدوا)، بعناء البحث عن حلول حقيقية، وفي خطة يجب أن توصف بأنها خطة سلام، فإن ما رشح عنها حتى الآن لا يحتوي أي مشجعات للفلسطينيين تسمح لنا أن نلومهم على رفضها أو عدم مناقشتها، بل على العكس هناك ما سيؤزّم الصراع في الخطة.
تتحدث الخطة عن خمسين مليار دولار للنهوض باقتصادات المنطقة، المنطقة نفسها المقبلة على حفلة حفر آبار الغاز على شواطئها، حيث ستكون الخمسين مليار دولار رقما ليس كبيرا في دوره بالنهوض بالمنطقة إذا ما انتهى الفساد بدول كالعراق وسوريا ولبنان، خلال بضع سنوات فقط سرق رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي لوحده خمس مئة مليار دولار حسب ما أعلنت هيئة مكافحة الفساد العراقية مؤخرا.
تحرم الخطة الفلسطينيين من بناء جيش، وتحرمهم من السيادة على أراضيهم جوا وبحرا وحتى برا بسبب المعابر، وتترك حيز حضور هذه الدولة في المحافل الدولية إلى تفاصيل لا تشكل مشكلة كبيرة، بينما لا يمكن بناء دولة حديثة بدون جيش يحفظ أمن حدودها، وسيادة تضمن لها التحرك لتحقيق مصالحها المشروعة.
يبقى أن الثورات العربية وعلى عكس ما يقول محور الممانعة بأنها مؤامرة أمريكية، استعجلت طرح هذه الحلول التي توصف بالعامية "بالمسلوقة"، وغير الناضجة، فنظريا ما تزال إسرائيل الدولة الوحيدة الديمقراطية في الشرق الأوسط، لكن عمليا فإن عقول ملايين الثائرين من حولها، تحررت من قيود الطغيان، ونالت كرامتها وحريتها، لا يوقف تحولها بأوطانها إلى دول مؤسساتية قوية سوى أفراد يحكمون هذه الشعوب بالقوة والنار والبارود، وللأسف فإن "إسرائيل" متهم دائم بمساندتهم بوجه تحرر هذه الشعوب حتى يثبت العكس.
في الحقيقة إن صفقة القرن هي نتيجة طبيعية لفشل السياسات المتطرفة في المنطقة، منها أن رئيس الوزراء الإسرائيلي قرر التحالف المصلحي مع الأنظمة الديكتاتورية على المغامرة في التعايش مع شعوب حرة، وتبدأ السياسات المتطرفة بدء من رئيس النظام السوري بشار الأسد، وليس انتهاء برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بل وصولا إلى حكام عرب ما يزالون يتعاملون مع شعوب المنطقة بمنطق ما قبل خمسة أجيال.
فشل بشار الأسد في تحويل سوريا إلى بلد مؤسساتي، يحافظ على فرده، ويساند القرارات الدولية، ويشكل توازنا منطقيا في الإقليم، بل دمر البلد وقضى على العامل البشري المهم لصالح استقدام جيوش ميليشيوية معطوبة الأداء الخارجي، واستخدمها لقمع ثورة السوريين، كما فشلت إسرائيل برأيي في أن تكون أوروبا الشرق الأوسط على مستوى الإنسان وحقوقه، فلم تستقطب عددا كبيرا من اللاجئين من أي بلد، ولا الفلسطينيين (الدروز يشتكون من عنصرية الدولة بشكل دائم)، أو حتى الأفارقة، وهي لا تعاملهم على قدر من المساواة كتلك الموجودة في باريس أو لندن أو حتى في الولايات المتحدة الأمريكية.
بسبب سياساته وضغوط القضاء التي يعاني منها، بالإضافة إلى الثورات التي تحدثنا عنها مسبقا، واقتراب انهيار امبراطورية الديكتاتوريات والفساد، يضطر نتنياهو إلى إلغاء علمانية الدولة، بل وتهويدها بشكل علني بغض النظر عن جدلية اليهودية كقومية أو كدين، ليضع بذلك حدا لأي آمال بالعيش المشترك بين العرب والإسرائيليين، أو المسلمين واليهود، وهو تعايش ممكن بتوافر ظروفه السياسية والاقتصادية وبالتالي الاجتماعية، فيما تتصارع بعض الدول في الإقليم بسبب الهوية الدينية لتعزيز وجهة النظر الإسرائيلية بأنها في منطقة تفتك فيها الأديان ببعضها، ولا بد من حماية الأقليات وفي مقدمتها اليهودية.
يبقى من الموضوعية القول بأن صفقة القرن إذا كانت طرحت لتكون حجرا يحرك المياه الراكدة، فليكن ذلك، ولتساعد الدول العربية بالدفع لعودة الأطراف إلى المفاوضات التي ترعاها الأمم المتحدة على أساس الدولتين، وحق عودة الفلسطينيين ممن يريد العودة والاستقرار في بلده الجديد على أقل تقدير، وليحمل الفلسطينيون معهم هم هذه المرة هموم من حولهم، لطلب تعهدات أممية لكل هذه الدول من العراق وحتى المغرب بضمان حق تقرير مصيرها، دون تدخل من أحد، وليقرر الإسرائيليون إذا ما كانوا يريدون العيش بسلام ونديّة مع شعوب المنطقة، أم أنهم سيقضون الألف سنة القادمة يدهم بيد الدكتاتوريات، ويدهم الأخرى على رأسهم، فقط ليقولوا إنهم الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، رغم أنها كانت أيضا الدولة العلمانية الوحيدة قبل سنة من الآن.
نبيل شوفان - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية