أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

تلاشي الإنسان.. حسين الزعبي*

نازح في ريف إدلب - جيتي

يوما ما قال الشاعر العراقي بدر شاكر السياب، مستهجنا: "إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون، أيخون ‏إنسانٌ ‏بلاده؟ إن خان معنى أن يكون، فكيف يمكن أن يكون؟، وبعد أكثر من نصف قرن أصدر محمد ‏الماغوط ‏ديوانه الأشهر تحت عنوان "سأخون وطني"، عنوانا أعتقد أن الماغوط اختاره مستفزا لأنه يفترض أن ‏كائناً سوياً، بالمعنى الإنساني، لا يمكن له أن يخون وطنه.

أما الشاعر العراقي الآخر عبد الرزاق عبد الواحد وفي ‏تطور لرؤية واقع خيانة الوطن، وصل، ولكثرة الخيانات، إلى القول في قصيدة تقابل قصيدة السياب: "هنيئاً لمن ‏لا يخونك، هنيئاً لمن إن تكون طعيناً يكونك، هنيئاً لمن وهو يلفظ آخر أنفاسهِ تتلاقى عليهِ جفونك"..

في أيامنا هذه، يبدو أن مفاهيم خيانة الوطن باتت موضة بالية ووصلنا إلى خيانة معنى "الإنسان" وربما بتنا على ‏مشارف مرحلة ما قبل الإنسان المسخ الذي تقدمه السينما العالمية وأفلام الرسوم المتحركة من خلال تصوراتها ‏عن نهاية العالم، هذا العالم الذي بدأ يتقزم حتى بات أصغر من "سيم" موبايل، وتقزمت معه المفاهيم الإنسانية ‏الكبرى التي توافقت عليها حضارات الشعوب منذ بدء التأريخ، بل أصبحت محل سخرية على مستوى ‏المجتمعات الضيقة، وأصبح السلوك البشري المرغوب هو ذلك المنفلت من أي ضابط قيمي، سواء أكان هذا ‏السلوك سياسيا أم اجتماعيا متعلقا بالحياة اليومية، فلم تسقط الأيديولوجيات بغثها وسمينها فحسب بل ‏البدهيات الإنسانية المتوافق عليها بشريا هي الأخرى في طور التلاشي، وأخذت تحل بدلا محلها مفاهيم غريبة ‏تشبه الأشكال العجيبة لمسلسلات الرسوم المتحركة في هذا الزمن، فلا هي بشرية ولا حيوانية ولا آلة صرفة، ‏حتى الفنون التشكيلية، باتت بعض مدارسها، برأيي، يقدم لنا نماذج من اللوحات ربما تصلح لترعيب الأطفال ‏أكثر من أي شيء آخر.

لا أدري إن كنا من الجيل المحظوظ أم من التعس لأن ذاكرتنا تحمل بعضا من الذكريات عن حياة كان فيها شيء ‏من البساطة والفرح، عن علاقات مرتبطة بالمكان، بالطبيعة، بالحارة بالأهل، حتى بأغاني المسلسلات ‏الكرتونية، التي كانت تقدم على بساطتها بعض القيم الاخلاقية، بينما يتلقى هذا الجليل لاسيما منهم في مرحلة ‏الطفولة كم من العنف على مدار الساعة عبر الألعاب أو البرامج الكرتونية، أو حتى ما يشاهدونه عيانا من ‏قصف وقتل ومآسي كما في سوريا وغيرها.‏

إذا كان هذا هو واقع الجيل الحالي فما الذي سيُقدم للأجيال خلال العقود القليلة المقبلة؟ ما الذي ستحمله ‏‏"ذواكرهم" سوى ما يتعلق بالسامسونغ والآي فون والبلاي ستيشن..‏ يا ترى ما الذي، سيقدم للأجيال المقبلة من منتجات خالية من "الإنسانية" أكثر مما يقدم الآن.. ‏ ربما هذا مرتبط بحتمية التطور سواء أعجبتنا أم لم يعجبنا.. أو لعلها مرحلة تلاشي الإنسان.. ‏

*من كتاب "زمان الوصل"
(216)    هل أعجبتك المقالة (223)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي