في عام 1996 أباح لي صديق –رحمه الله- بأنه كان سجيناً سياسياً !، وحكى عن تجربته في السجن ومما حكاه، أن حكى لي عن سجانه (أبو نسيم)، وكانت عيناه تغرورق بالدمع حزناً كلما تذكر هذا الرجل.
قال لي: (أبو نسيم) رأف لحالي، فلقد كان وزني خمسين كليو فقط، وكان يعرف أن السوط الذي عليه أن يضربني به، سوف يأخذ من لحمي، وكان يصر على الضابط بأن يتولى تعذيبي هو بنفسه، ثم يغمز لي بعينه هامساً بأذني: صيح قد ما فيك ! و يبدأ هو بضرب الأرض بالكرباج.
لقد استمر اعتقالي عشر سنوات بالضبط تقريباً بدون محاكمة وخلال آخر خمس سنوات كان أبو نسيم ينقذني ! ثم مات سجاني (أبو نسيم)، مات الرجل الذي أصبح صديقاً لي وأنا في المعتقل، وقد أدركت من خلاله أن لكل امرئ من اسمه نصيب، فعاد السوط ليلسع جسدي النحيل.
كنت أحاور (أبا نسيم) ونحن ندخن (الحمرا الطويلة) عندما نبقى وحدنا، وكان يعطيني لأرشف من كأس الشاي الذي يشربه وهو يقول بلهجته القروية: "أفيني جبلك كاسة خيد شراب"، وكنت أتذكر عندما أسمع هذه اللهجة رفاقي في الصاعقة (محمود) و(علي) و(صالح) ! وأتساءل ما الذي حل بهم؟ وكانت لهجة (علي) هي الأقرب للهجة (أبي نسيم).
ذكريات صديقي المعتقل السابق في السجون السورية، وهو الذي مر بأسوأ الظروف، وعانى من التعذيب والقمع لأنه ضبط (يفك) بطريقة لا تناسب السلطة، كانت ولازالت على الدوام تفتح أمام عقلي دروب التفكير في مجموعة من المسائل، التي قلما طرحت للنقاش العلني في مجتمعنا بسبب الحساسيات الطائفية والمذهبية، ومنها مسألة (السجان) وكون السجان من الساحل في الغالب طبعاً.
ولأنني أنا شخصياً أنتمي لهؤلاء القوم وأعتز بذلك، أشعر بالحزن الشديد وبالضيق حد الانفجار لأن لهجة التعذيب في السجون السورية هي اللهجة الساحلية (العلوية) ! فبعد أن كان هذا الفلاح طاهراً ونقياً صار الآن سجاناً؟ لا بل وأكثر من ذلك صار من يريد أن يمارس تشبيحه على الناس (قبل 2011م وبعدها) يلهج هذه اللهجة التي أصبحت هوية تخويف تعسة.
لماذا ؟؟ ومن أجل من؟؟ من أجل من تتحول -يا هذا- لضرّيب (كف) وحامل (سوط) ؟؟ ومعلماً في فنون التعذيب؟
لا يزال الكاتب الكبير محمد الماغوط هو الأكثر عبقرية في الإجابة عن هذه الأسئلة، وها هو في مسرحية "غربة" يصف السيد (خرفان) الذي ذهب ليساعد أهل قريته إلى المدينة، فتركهم (ردحاً) من الزمن، ثم عاد إليهم مسؤولاً بنظارات شمسية وثياب نظيفة، وعندما تعرف عليه أبناء قريته، اشمأز منهم بحجة أن ثيابه نظيفة، فردت عليه الحجة:
"بيجوز انت نضفت من برا بس نحنا بعدنا نضاف من جوا يا ابن بو جلة"!
هي مشكلتنا التاريخية خلال النصف قرن الفائت، إنه (خرفان بيك) ذاك الذي خان قرعة أبيه و جده، وتنكر لطيب الأرض وكرمها وحنوها على البشر، وقرر أن يصبح من طينة أخرى.. طينة (أبو جلة) الذي يضع النظارات التي لا تمكنه إلا من رؤية نفسه ومصلحتها الدنيا، وها هو واقع الحال مدقع الفقر وموغل الدم يشي بكل شيء.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية