ليس خروجاً عن التوافق الوجداني العربي في أن فلسطين قضية العرب المركزية التي يتمحور حولها الصراع الوجودي مع دولة الكيان، وهي أيضاً الحلم الذي طالما كان سورياً، وقضى من أجله الآلاف من السوريين إما في المعارك المباشرة أو في انخراطهم في العمل الفدائي.
ولكنها أيضاً صفقة إخراج الظهير الكبير لفلسطين من معركة استعادتها، ولهذا كان التوافق العالمي على إنهاكها وتدميرها بتواطؤ عربي بدأت ملامحه تظهر للعلن، وهؤلاء كانوا رأس الحربة في الخراب مثلما كان في لقطتهم الأخيرة يباركون صفقة ترامب في تحويل فلسطين -كما يأملون- لمجرد حكاية غير قابلة للتصديق.
تم تدمير البلاد من أقصاها إلى أقصاها بدعوى الإرهاب، وأبيدت بنيتها التحتية من مدارس ومشافٍ ومؤسسات وآثار ضاربة في التاريخ، ودكت القلاع التاريخية بالدبابات، وهدمت الأحياء والأسواق الأثرية، وانتهكت المتاحف، وأهينت دور العبادة المسيحية والإسلامية، وتحولت البلاد خلال عقد من الصراع إلى حطام كان بلداً هانئاً عريقاً.
هجر أهل سوريا فيها، ومن ثم إلى دول الجوار وبقية أصقاع الأرض، وفي رحلة هروبهم التاريخية أكلت الأسماك أجساد أبنائهم وابتلع البحر أرواح الشباب الفارين من موت لا ذنب لهم فيه إلا أنهم ولدوا في بلاد يريد الطغاة أن يحكموها ويسرقوها كما لو أنها مزرعة دجاج.
دعم بعض العرب سراً نظام الأسد، وناصبوه العداء كي لا يغضبوا من يحمي كراسيهم، ومدّ بعضهم فصائل المعارضة بالمال والعتاد ليس من أجل عيون السوريين الدامية لكن من أجل أن يكتمل دورهم في حصة التدمير الكبير، ومن ثم حولوهم إلى مجرد ملف يتناقلون إدارته، ويختلفون على حصص الدم كم نصيب أي منهم سيكون أكثر.
أخطر ما في صفقة القرن السورية هو تهديم النسيج السوري، وصناعة جزر ملوثة عقائدياً وطائفياً وعرقياً، واجتثاث روح المواطنة التي بدأ العبث بها مع استيلاء البعث على السلطة إلى تبني الدولة الأسدية الثانية خطاب الطائفة بديلاً عن خطاب الدولة، والجهر علانية بوجوود سوريين وطنيين هم من يؤيدون النظام، وسوريين خونة ومرتزقة هم من يقفون ضد إرادته.
واليوم مع الضربات الوحشية على آخر ملاذ لمهجري البلاد، وصور الموت والتهجير الجديدة تسقط آخر ورقة توت من شرف الإنسانية والعروبة والوطنية، وبعدها سيماط اللثام عن هول الكارثة التي لحقت بهذه البلاد من فقر وجوع وخراب، وفشل إنساني وخراب اجتماعي واحتلالات تبدو أن لا نهاية لها في أمد قريب.
صفقة القرن التي أخذت وقتاً طويلاً لتخرج بنسختها الباهتة والقاصرة منذ أيام لمسح فلسطين من خارطة الوجود المعنوي - فالأرض لا يمكن ترحيلها وشطبها- والثقافي لدى شعوب المنطقة وليس الفلسطيني وحده قد ترافقت مع صفقة سريعة لتدمير سوريا الشقيقة الأكبر في عائلة فلسطين..ليس من أجل أن يبقى الأسد في السلطة فحسب بل من اجل أن يخفت صوت من يعتقدون بفلسطين دولة وشعباً وذاكرة.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية