بين جميع المسارات التي اخترعتها "الدول الضامنة"، ظلَّ "مسار تسليم حلب" (الحدث الجلل الذي تحوَّل إلى مسار حقيقي لا تعترف به تلك الدول في مؤتمراتها) هو المسار الأمّ. حتى لتشعر بأنه الأوتستراد الكبير الذي يتفرَّع منه مسارا سوتشي وأستانة وبقيَّة المسارات.
فمنذ كانون الأوَّل 2016، تاريخ تسليم الجزء الشرقي من المدينة، رُسِمَ المسار الذي قُدِّرَ للأحداث أن تسير عليه.
صار للتوافقات (اقرأ: المقايضات) التركية - الروسية الكلمة الفصل في سير الحدث السوري. لم يعد للساسة الأتراك من هاجسٍ سوى القضاء على الكيان الكُردي الناشئ على حدود بلدهم. إسقاط نظام الأسد تحوَّل إلى إسقاط للمشروع الكُردي، والقرداحة انتقلت إلى القامشلي.
الرئيس الروسي الذي أثبتَ قدرةً فائقةً على إبرام الصفقات من موقع المبتزّ، أبرمَ صفقةً -كشفَ مرور الوقت وتعاقب الأحداث أنها صفقة كبرى- مع الرئيس التركي الذي دفعته هواجسُ أمنه القومي نحو استراتيجية تقليل الخسائر إلى حدودها القصوى في سوريا.
إنَّ عمليات "درع الفرات" و"غصن الزيتون" و"نبع السلام" (التركية بأيدي مقاتلين سوريين) لم تكن بلا ثمن. وما حصل في "المناطق المحرَّرة" لم يكن منقطع الصلة عمَّا جرى ويجري في مناطق تلك العمليات. ففي أقفال مورك وخان شيخون ومعرَّة النعمان دارت مفاتيح "نبع السلام"... تماماً مثلما دارات، قبل سنوات، مفاتيح "درع الفرات" في أقفال مدينة حلب.
أمَّا اللقاء شبه المعلن بين رئيس جهاز الاستخبارات التركي حقان فيدان ورئيس "مكتب الأمن الوطني" علي مملوك في موسكو، بتاريخ 13 كانون الثاني الجاري، والذي طارت به "وكالة سانا"، دون صدور أي تكذيب تركي، فليس إلَّا دليلاً –لا نحتاجه- على وجود تنسيق عمليَّاتي على الأرض ظهرت أعراضه في التساقط السريع للمناطق.
إنَّ العودة إلى تاريخ تسليم مدينة حلب ليس عودةً إلى حدث كبير، بقدر ما هو إعادة استكشاف للمسار الأكبر الذي رسمَ طريق الهاوية لما تلاه من أحداث، والذي ما يزال مستمرَّاً حتى اليوم. وإنَّ كتابةً منصفةً وجريئةً لتاريخ الثورة في سوريا لا يمكن أن تتمَّ من دون إفراد فصل كبير للكتابة عن هذا الحدث الكارثي الذي شاءت له "الدول الضامنة" أن يتحوَّل إلى مسار كارثي.
*شاعر وكاتب سوري - من كتاب زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية