ربما تكون "نوستالجيا" السوريين في المهجر وحنينهم إلى البلاد سببا في موت الكثيرين كمداً وقهراً بعد اقترابهم من إتمام عشرية قاهرة ضربت البلاد.
وربما تكون مصادفة أن يموت منهم في ألمانيا لوحدها ستة شبان بالجلطة خلال أقل من شهر، لكنها ليست كذلك لأن الجلطات لا تختار جنسية معينة، فالشباب السوري يشكل في ألمانيا ما نسبته واحد بالمئة من الشباب على اعتبار أن أرقام مركز الإحصاء هناك يتحدث عن أن نسبة السوريين لا تتجاوز الواحد بالمئة من عدد السكان الذي يقترب من 83 مليونا.
ولو كانت نسبة الشبان الذي ماتوا بالجلطة الدماغية أو القلبية من كل الأصول والجنسيات متساوية، فكان علينا أن نشهد وفاة 600 شاب، وهي فرضية غير علمية لكنها قريبة من المنطق حسابياً، وعندها لا أشك أن ألمانيا ستعلن حالة الطوارئ الصحية على هذه الثروة.
وإذا كانت الدراسات لا تعفي الشباب من الجلطات لأسباب منها ما يتعلق بالسمنة وقلة الحركة أو حتى التركيز على الغذاء النباتي، كما أنها تتحدث عن زيادة هائلة بين شريحة الشباب، فإن للعوامل النفسية دورا بارزا وهذا ما تلحظه بعض الدراسات.
وتقول منظمة الصحة العالمية إن الاكتئاب ينجم عن نوع من التفاعل المعقد بين العوامل الاجتماعية والنفسية والبيولوجية، وإن الأشخاص الذين عانوا من أحداث حياتية صعبة (البطالة، الفجيعة، الصدمات النفسية) أكثر تعرضاً للاكتئاب.
وتربط المنظمة بين الاكتئاب والصحة البدنية، إذ يمكن أن تؤدي الأمراض القلبية الوعائية إلى الاكتئاب، والعكس صحيح.
كل ما سبق لا يعبر عن كارثة السوريين في الداخل والخارج، إذ تعرضت بلادهم لأسوأ حرب تشهدها البشرية منذ الحرب العالمية الثانية لجهة حجم الموت والدمار الحاصل على مستوى البنية التحتية والبشر، لكن هذه الكارثة قد تكون الأخطر على مرّ التاريخ في آثارها النفسية والاجتماعية على شعب كامل.
لماذا تعتبر الكارثة السورية هي الأخطر على مر التاريخ؟، هذا سؤال أحاول الإجابة عليه من زاوية لن تتعرض لها الدراسات الاقتصادية ولا الصحية ولا النفسية الأممية، إذ لم يسبق أن جرى قتل مليون شخص على الهواء مباشرة، ولا تهجير ونزوح نحو 15 مليونا في تسع سنوات من بلد صغير واحد دون أن يرفّ جفن للقوى العظمى.
تشير بعض الإحصاءات إلى أن هناك 5.5 ملايين لاجئ سوري مسجلين على قوائم المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في عدد من الدول، وهذه الإحصائية لاتشمل عددا كبيرا خرجوا دون أن يسجّلوا على تلك القوائم، كما تشير الإحصاءات إلى أن هناك 6.2 ملايين نازح، وإلى وجود 4 ملايين مصابين بإعاقة كلية أو جزئية، كما تظهر الدراسات أن نحو 40 بالمئة من الأطفال اللاجئين بين سن 6 و15 عاما هم خارج المدارس والعملية التعليمية.
إن الأرقام والنسب السابقة إذا ما أضفنا عدد المعتقلين والمختفين قسريا في سجون ومعتقلات النظام السوري، وكذلك المغتصبات والمعنفات من النساء، والأطفال مكتومي القيد، والفتيان والشباب الذين لم يختبروا الحياة وأصبحوا أيتاما، أو هاجروا ولم يحصلوا على الرعاية الأبوية، وإذا ما احتسبنا نسبة الفقر والبطالة داخل سوريا وخارجها سنكتشف أن من بين 100 سوري هناك 99 منهم تعرضوا لويلات الحرب أو أصيبوا بآثارها ومازالوا يعانون منها.
بالإضافة إلى الآثار التي تتركها نيران الطائرات والمدافع والجوع والدمار، هناك ما يتركه الشعور بالإحباط الجماعي، وهذا ما يفسر حالات الاكتئاب والأمراض النفسية المؤدية للوفاة بين الشباب، أو الانتحار، إذ يعاني كثيرون داخل مجتمعات اللجوء من العزلة جراء برامج الاندماج الضعيفة أو التي لا تراعي الحالات النفسية الخاصة، أضف إلى الجفاف العاطفي الاجتماعي كما هو الحال في ألمانيا حسبما يصفه الكثير ممن نلتقيهم.
يقول لي أحد الأصدقاء اللاجئين في ألمانيا أنه يتمنى لو أن جيرانه يقبلون أن يقضي طفلهم بعض الوقت مع أطفاله، مستغربا مستوى الجفاء الاجتماعي وعدم الرغبة في مخالطة اللاجئين.
خبر وفاة ستة شبان في شهر واحد وقع كالصاعقة على السوريين في الداخل والخارج، وهو حلقة في دائرة الموت، لكن ما حصل في مجموعة ضحايا "الجلطة الألمانية" ربما نبّه السوريين إلى ضرورة أن يتواصلوا ويتفاعلوا مع بعضهم البعض، خصوصا في مجتمعاتهم الجديدة، إذ يعاني الشباب وحدة قاتلة نتج عنها هذه الحالات وهي ليست الوحيدة، وللدلالة على أثر الوحدة في هذه الحالات أن يموت واحد بين هؤلاء الشبان ولا يعلم أحد إلا عندما تتفسخ جثته ويشعر بها الجيران ليبلغوا الشرطة المحلية.
اندفع بعض الأصدقاء في أوروبا مثلا إلى إنشاء مجموعة على منصة فيسبوك تحمل اسم "قلبي قلبك" كنافذة للفضفضة، وكان مفاجئا أن ينضم إليها خلال نحو أسبوع أكثر من 6 آلاف شخص، يتحدث بعضهم عن حالات الاكتئاب والعزلة والمعاناة لأسباب مختلفة، لقد بات السوريون يستمعون إلى أوجاعهم دون أطباء، فهم يحاولون لململة أشلاء بعضهم البعض، لا كضحايا فقط، بل كضحايا وأطباء حبّ وتكافل، ودون المراهنة على نجاح التجربة فإنها تعبير عن الحاجة لمن يستمع للسوري المعذّب، كما أنها محاولة للفت النظر إلى بعض الحلول التي يمكن إيجادها للتفاعل والتعبير من قبل كل شخص عن الاهتمام بالآخر، وكذلك بحث كلّ شخص عن آخر يسمعه.
إلى قلبك أيها السوري:
ليس في التاريخ ما هو جيد بالمطلق، إنما هي دورة تعقبها دورة، واحدة للموت، وأخرى للحياة، وثالثة للبناء، وغيرها للكفاح، وإنها أحوال البشر في كل حقبة، تتزين الأرض ثم تحترق، وليس في مخيلتي إلا الشباب السوري في أربع رياح الأرض ينشد كما أنشد امرؤ القيس في غير مناسبة:
أجارتنا إنّا غريبان ها هنا.. وكل غريب للغريب نسيب
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية