ترى هل امّحت من الذاكرة هزليات ذلك المسلسل المسلّي من الشتائم والسجالات بين مندوبي السعودية ونظام الأسد لدى الأمم المتحدة في نيويورك، هل كان حقيقة أم دراما كوميديّة، وإن كان مجرد استعراض كوميدي فكيف ترك السعوديون بشّار الجعفري يكيل أقذع الأوصاف بالمملكة، من مثال أنها ليست دولة بل تنسب لما يسميه مندوب سوريا "العائلة المالكة".
ما علينا.. فالكل يعرف وشاهد المسلسل، لكن المفاجأة هي أن يستفيق الملايين من أبناء الشعبين السوري والسعودي على أن ما حصل كان حلقة من مسلسل "صحّ النوم".
نهاية الأسبوع الماضي قام المندوب السعودي الدائم عبدالله المعلمي بدعوة زميله "الجعفري" إلى حفل أقامته الممثلية السعودية على شرف وزير الدولة السعودي فهد بن عبد اللـه المبارك، والزائر للولايات المتحدة ومقر الأمم المتحدة تحضيراً لرئاسة السعودية للاجتماع القادم لمجموعة العشرين.
العبرة ليست في الدّعوة بل فيما تناقلته مواقع إلكترونية وصحف، ومنها صحيفة "الوطن" التي يمتلكها رامي مخلوف، إذ تنقل الصحيفة عن مصادرها قائلة: "تقصد المعلمي والوزير المبارك اللقاء بالجعفري خلال الحفل، ما أثار اهتمام الحاضرين وشكل مفاجأة ودية لهم، وعبر المسؤولون السعوديون خلال هذا اللقاء عن قناعتهم بأن ما جرى بين البلدين يجب أن يمر، مشددين على العلاقات الأخوية التي طالما جمعت بين سورية والسعودية".
وهذا ليس كل شيء إذ تشير الصحيفة إلى أن "المسؤولين السعوديين" أكدا "أن ما شهدته العلاقات بين البلدين ليس سوى سحابة صيف ستمر حتماً."
ثمة أمور تثير العجب فيما تفعله الدبلوماسية السعودية إن صحّت المعلومات، أولها أن الرياض بمثل هذا السلوك تتخلّى عن عمقها الاستراتيجي ووسادتها الديموغرافيا باتجاه الشمال (بلاد الشام)، ما يعني أننا أمام استراتيجية في الاتجاه المعاكس بدعم وإعادة تأهيل نظام قمعي قاتل، لتبادر الرياض لوضعه على "المنفسة".
الأمر الثاني هو أن الرياض تكلفت بعد اجتماع فيينا الأممي في نوفمبر 2015 باختيار وفد "المعارضة" السورية للمفاوضات مع نظام الأسد، وكانت آخر خطواتها إعادة تشكيل وفد المستقلين أواخر ديسمبر 2019، ما يعني أنها باتت تدير هذه المهمة بنفس الصلاحيات مع اختلاف توصيفها كدولة تبنت كل المواقف المعلنة الداعية للانتقال السياسي الكامل الذي ينهي شكل النظام السوري القائم، وذلك وفق مرجعية الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي في القرار 2254.
الأمر الثالث، هل يشير ما تقوم به السعودية إلى أنها تفهم تماماً طبيعة الموقف الأميركي الذي مازال يصرّ على أن نظام الأسد غير مؤهل للبقاء، بل وتشير المعلومات إلى توجهه أمريكي ـ أوروبي للضغط باتجاه التغيير في سوريا كشرط للنظر في عملية إعادة الإعمار، بمعنى أن الرياض لم تعد تهتم لرؤية حليفها الاستراتيجي الكبير، أم أن في الأمر خدعة.
موقف الرياض يشير تماما إلى أنها تتبنى رؤية موسكو، وربما لأسباب استراتيجية لا تتعلق باهتمامها في الشأن السوري الداخلي، بل بتركيزها على إنجاح مهمتها على المستوى الدولي خلال رئاستها لمجموعة العشرين حتى ولو استخدمت ما بيدها من أوراق تعتبرها تفصيلاً لتحقيق طموحها السياسي والاقتصادي دون النظر إلى مسؤولياتها الإقليمية والعربية.
ما الذي يدفع الرياض لهذه الاندفاعة والتي تجلت في اتصالات عبر قنوات خلفية تقف في واجهتها أبو ظبي، ولماذا لا تضع استراتيجتها على الطاولة دون أن تتورط في إراقة دم السوريين الذي يعتقد جزء منهم أنهم في سلّم أولوياتها.
هناك تبدّل جذري في المواقع، وربما يفهم من التمهيد والغزل مع نظام الأسد أنها محاولة لأخذ مكان إيران في سوريا، لكنها مخاطرة كبيرة بالاتجاه المعاكس، ونجاحها يساوي بالقيمة فشلها لأنها عملية ملوّثة بدماء مئات آلاف الضحايا السوريين، وهي جريمة تستتبعها محاكم وعدالة، وإن لم يحصل فانتقام تطال شظاياه كل المتورطين.
*علي عيد - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية