هناك في حراك السويداء الأخير شيئٌ ما يوحي بأن أزمة المنطق في سورية، قد بدأت بحل عقدها تلقائيًا. تلك الأزمة التي بدأت مع تموضع بعض السوريين في فضاءٍ يتناقض مع الفضاء الأخلاقي الذي يخدم مصالحهم بعيدة المدى، يعني هذا، بأحد اشكاله، عودةً إلى المقولة الخلدونية: "الظلم مؤذن بخراب العمران"، وخراب العمران هو خراب الوطن، ومن ثم خراب عيشة الإنسان عبر تهديد وجوده ومقدراته. هو شيءٌ ينبِئُ بتصحيح المسار المنطقي المقلوب، وبتموضعاتٍ جديدةٍ أفضل من سابقاتها، وسلوكيات أكثر تطابقًا مع ما كان بثقةٍ يقوله طالع التاريخ في فنجان الكرامة والنخوة في السويداء.
استنادًا إلى هذا التقديم الذي يفسر الدافع القابع خلف الرغبة في كتابة هذا النص، فإن ما يقاربه هذا النص، لا يُرسل إلى المتظاهرين في السويداء شيئًا، ولا يضع ذلك هدفًا له، كما لا يهدف إلى التنظير لهم أو (عليهم) بشئٍ، بل يستقبل منهم رسائلهم، يقرؤها، يفهمها وفق خلفيته المفاهيمية، ويحللها، لنفسه، ولمن يقرأه، تحليلًا غير يقيني، يقبل النقد ومنفتحٌ عليه. فللمرء منّا في هذا الزمن حقٌ في الرأي، وللفرد حقٌ في يائِه عندما يتكلم، فهي تعني فردانيته، وتفيد نسبيته، واستقلال قراره، وهذا المعنى مُستهجن عند أصحاب الفكر الشمولي، وأتباع منهجية القبيلة، والطائفة، والكثير ممن يؤمنون الحتمية، وممن يعتنقون ما يمكن أن نسميه "العلمانية الدرزية"، وهذه الأخيرة هي تيارٌ نغلٌ، وهجينٌ وبين الدرزية واليسار، نما بين الشباب اليساري الدرزي بشكلٍ إيماني، فيه من اليقين الخرافي أكثر ممَّا في البلد من بؤسٍ مُعمَّم، تيار يرسم اليوم على المشهد في السويداء منجلًا، أو مطرقة، أو خمس حدود، وما إلى ذلك... ولهذه "العلمانية الدرزية" نظيرٌ غير درزي، وهو ما يمكن أن نسميه على الغرار نفسه بـ"الوطنية الانتهازية"، ويرى المصابون بها أن الوطنيةَ انتهازٌ لفرص الربح الشخصي، والتهجم المُبتذل على الجميع، والاستعلاء، ومحاولة احتكار الفهم في المجتمع والسياسة؛ فيرى هؤلاء في الحراك في السويداء اليوم، كما يرون في معظم الأحداث، فرصة لـ"المنفخة"، ولإبراز ذواتهم المتضخمة من جديد، وإظهار كلام مكرر موارب من دون موقف أخلاقي. هذه الظواهر ذاهبةٌ، كما تذهب الأوهام جميعها، نحو الختام.
بالعموم، ليست الثورات محض قضية، ولا محض أخلاق، أو توصيفات، أو تسميات، بل الأهمية لمن يقومون عليها، ولمن يعملون اليوم على نسبيتها، فيقبلون في صفوفها من كان في الماضي خارجها بدلًا من أن يوزعوا الباقين على أتباعها، ومن هذا المدخل نقول إن حراك السويداء، رغم كل شيء، ورغم كل الجدل، حراك مُحترم وحراكٌ ينتمي - بشكلٍ أو بآخر_ إلى المسار الثوري السوري.
فما من شكٍ أن الفقر صعب، وما من شكٍ في مشروعية المطالبة بحياةٍ كريمة ومحترمة، وما من أحدٍ يمكن أن يستنكر صرخة من القلب يقول فيها أحدهم: "بدنا نعيش"، وما من أحدٍ لديه الحق في حرمان أحد من حصته في الأمل المُؤجل الذي ينتظره كلُّ السوريين، وانطلاقًا من احترام هذا الحراك، نضع مجموعة من النقاط لا لغرضٍ، إلا لخلق فضاء أوسع للنقاش والحوار:
أولًا: العلاقات المبنية على الدوافع المذهبية هي حصان الغد الخاسر، فيما الانتماء العمومي الوطني الذي ندخله بوصفنا أفرادًا أحرارا هو حصان الغد الرابح، وربما يكون في موضعٍ ما، المنقذ الوحيد، والضامن الأمثل للعيشة الكريمة. فـ"جماعتنا" هي من نتعاقد معهم في وطن تعاقدًا حرًا فرديًا لا جبرًا ولا قسرًا، وبوضوح أكثر فإن الجماعة المذهبية أو الدينية لكي تعيش يجب أن تستند إلى عمق وطني.
ثانيًا: كلّ من مات تحت التعذيب، ورفض البعض أن يترحمَّ عليه، ماتَ من أجل أن نعيش، وكل من خرج في مظاهرة، وأبرحه البعضُ ضربًا، قد خرج من أجل أن نعيش، وكلّ من مات تحت برميلٍ، أو تحت الثلوج في مُخيمٍ، قد قضى من أجل أن نعيش. لنفكر في ذلك...
ثالثًا: "بدنا نعيش" تتطلب أيضًا العمل على تمكين القابلية الأخلاقية للحياة، وحدود هذه القابلية الدُنيا هي مناهضة القتل، والتعذيب، والضيم.
رابعًا: "بدنا نعيش" تتطلب العمل أيضًا على رفع الغطاء عن القتلة والزعران والسارقين والشبيحة.
خامسًا: لا يستوي أن تكون لدينا مشكلة مع اللصوصية، من دون أن تكون لدينا أي مشكلة أخلاقية مع اللصوص؟! كيف نطلب من اللصوص حماية بيوتنا، ومن الزعران حماية عرضنا، وفي الوقت نفسه نتطلع للعيش الكريم؟!. ليست من اللصوص أبدًا تُطلب العيشة الكريمة...
سادسًا: يكذب التاريخ على من يرفعه مقام اليقين، لكنه لا يكذب على نفسه حين يساهم في صناعة الحاضر، فالحذر من الاتكاء على يقيناتٍ تاريخية مكثفةٍ ومؤسطرة قد أصبح فعلًا ينتمي أيضًا إلى الحقل المعرفي لمقولة "بدنا نعيش".
سابعًا: وحدات الزمن مترابطة، ومن الوهم الاعتقاد بأن هذه اللحظة تجبُّ ما قبلها، فالثورة مرت بمراحل والأجدى المراكمة عليها، لأن نكران شعاراتها، ومن ثم نكرانها، يعني البدء من الصفر، ويعني العزلة عن مسار تاريخٍ يتشكل، مسار سينتصر للإنسان المواطن الأخلاقي، عاجلًا أن آجلًا...
ثامنًا: التطرف الديني خطيرٌ على الوطنية، والحركات الإسلامية المتشددة تهدد السوريون جميعهم، ولكن سبب وجودها الرئيس هو النظام، هذا من جهة، ومن جهةٍ ثانية، لكي يستقيم رفضها ومناهضها علينا أن نطبق منهجية الرفض نفسها في التعامل مع لفَّاتٍ احمر لونها من دمِ المظلومين، ومع لفاتٍ مُجعلكةً بعماماتٍ سوداءَ وبكرابيجٍ وأموالٍ في فروع المخابرات...
وأخيرًا، هذا حراكٌ ناشرٌ للأمل، وتحت هذا الحراك فكرةٌ من ذاكرةٍ قريبة، فكرة لا يهزمها أحد، تتقن شهوتها الأثيرة في صناعة الحرية والكرامة، أي في صناعة رغد العيش.
*كاتب سوري - مساهمة لـ"زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية