حرصت حركة "فتح" منذ نشأتها على التفرد بالشأن الفلسطيني والهيمنة على القرار السياسي، وذلك عبر التحكم في صياغة النسيج الفصائلي الفلسطيني وممارسة سياسة الإقصاء والتهميش ضد القوى السياسية المناوئة لها، ولم يمنع "فتح" الإضرار بالقضية الفلسطينية من سعيها العنيد لتحقيق تفردها وهيمنتها، إلى أن أصبحت تقود اليوم عملية استنزاف وطني شامل.
لقد كانت حركة "فتح" الضحية الأولى لتفردها وهيمنتها، فالتفرد هو أخطر سلوكيات التدمير الذاتي التي مارستها "فتح" وأدت إلى استنزاف المشروع الوطني التحرري، فقد أدى إصرار "فتح" على إدخال الطيف السياسي الفلسطيني شديد التنوع تحت عباءتها، واستحواذها على مؤسسات صناعة القرار السياسي كافة، واحتكارها للسلطة ومؤسساتها إلى توجيه جهودها وبرامجها داخلياً للمنافسة الحزبية الضيقة التي لا تستند إلى المعايير الوطنية الشريفة.
كما أدى ذلك إلى تناغم برنامجها السياسي وأجندتها الداخلية مع سياسات القوى الإقليمية الفاعلة في المنطقة والمخططات الغربية المعادية لطموحات الشعب الفلسطيني، بل إن ذلك السعي للتفرد والهيمنة أدى إلى تحول "فتح" إلى شريك استراتيجي للاحتلال الصهيوني في عملية تصفية القضية الفلسطينية، وجعلها أداة بيد الإدارة الأمريكية لخلق الفوضى الخلاقة – كما تصفها رايس – وإضعاف الجبهة الداخلية وتمزيقها، ليتسنى للعدو الصهيوني الأمريكي استثمار ذلك التمزق لفرض إملاءاته واشتراطاته وإنجاز مخططاته.
ونتيجة لإدمانها على التفرد بالشأن الفلسطيني، أثبتت "فتح" فشلها في العيش في ظل شراكة سياسية فاعلة، تعزز الجبهة الداخلية، وتصون المشروع الوطني التحرري من الانحراف والاستنزاف، وتحافظ على إنجازات المقاومة وتضحيات الشعب الفلسطيني. ولقد تجسد هذا التفرد الفتحوي في رفض "فتح" المشاركة في حكومة وحدة فلسطينية مع حركة المقاومة الإسلامية "حماس" وفقاً لنتائج العملية الانتخابية التي أدت إلى حصول "حماس" على أغلبية في المجلس التشريعي.
فقد اشترطت "فتح" لمشاركتها في حكومة الوحدة الوطنية رضوخ "حماس" لبرنامجها السياسي ذي الولاء الأجنبي ورؤيتها المستمدة من إملاءات الاحتلال واشتراطات المجتمع الدولي الداعم له، بل لقد استنفدت "فتح" كل جهودها واستنزفت الشعب الفلسطيني من أجل نزع حق المشاركة السياسية الفاعلة من "حماس" وإفشالها والانقلاب على شرعيتها وإسقاط حكومتها الشرعية، فأقامت "فتح" حكومة طارئة غير شرعية بمقتضى مراسيم عباسية ساقطة لتحقيق تفردها، كما قام عباس بتعديل قانون الانتخابات بطريقة عبثية غير قانونية ليضمن تفرد حركته في المجلس التشريعي.
ويرجع ذلك السلوك الشاذ في التعامل مع القضية الفلسطينية إلى عجز "فتح" عن التخلص من الفساد الذي استشرى في مؤسساتها وسلطة أوسلو التي تقودها، فأي شراكة سياسية حقيقية فاعلة مبنية على أسس سليمة ومعايير وطنية شريفة واحترام متبادل لقواعد اللعبة السياسية ستؤدي فعلاً إلى اضمحلال شعبية "فتح" وفقدها لنفوذها وحالة تفردها.
ويرجع إصرار "فتح" على استمرار حالة تفردها إلى ارتباطها مصيرياً بأجندة أجنبية معادية للشعب الفلسطيني، بذريعة أن هذه الجهات لديها رغبة في إقامة دولة فلسطينية جنباً إلى جنب مع كيان الاحتلال الغاصب، رغم أن الأيام والوقائع على الأرض أثبتت زيف هذه الرغبة، وكل ذلك ترتب على توقيع "م.ت.ف." التي تسيطر عليها "فتح" اتفاقية أوسلو المشينة مع الاحتلال الصهيوني.
وحركة "فتح" إذ تسلم ذمام أمورها لهذه الجهات الأجنبية المعادية لشعبنا وأمتنا، لا تملك أي برنامج وطني يعيد الحقوق ويحافظ على الثوابت، فقد تم استنزاف برامج "فتح" في فترة أوسلو واستنفدت قوتها ووصلت إلى طريق مسدود ولم تعد تملك أي أفق سياسي حقيقي. وهذا يفسر خيبة الأمل التي مني بها الشعب الفلسطيني ودفعته للقيام بالانتفاضة الثانية، "انتفاضة الأقصى"، وذلك بعد أن أدرك أن اتفاقية أوسلو وسلطتها ما هي إلا تكريس للاحتلال ووضع حد للطموحات الفلسطينية بالحرية وتقرير المصير.
ورغم كل ذلك الفشل والتعبير الشعبي عن رفضه للوصاية الفتحوية، لا تزال "فتح" مصرة على الجري وراء سراب بوادر حسن النية (السيئة) التي يبديها الاحتلال الصهيوني المجرم من حين إلى آخر، وهي لا تزال تلهث وراء الوعود الأمريكية والأوروبية الوهمية الكاذبة، آملة أن يعود لها تفردها واحتكارها وهيمنتها مرة أخرى.
إنها حالة من الوصاية الكاملة، وغير القابلة للنقاش والمحاسبة، لا تزال "فتح" تمارسها على الشعب الفلسطيني رغم رفضه المطلق، ولقد قادت هذه الوصاية "فتح" – في نهاية المطاف – إلى الانحراف وتحويل القضية الفلسطينية إلى مشروع استثماري يقوم عليه سماسرة جدد تجاوزوا كل الاعتبارات الوطنية والدينية، وبدأوا يستنزفون قوى الشعب الفلسطيني ويتاجرون بقضيته، إلى أن وصلت هذه الحالة من الاستنزاف الوطني إلى ذروتها.
لقد استغلت "فتح" منظمة التحرير الفلسطينية، التي أصبحت رمزاً للفساد والاستبداد، لتحقيق تفردها وهيمنتها واستبدادها، فقد ضمنت فتح سيطرتها على "م.ت.ف." وجعلتها – بتوجيه رسمي عربي ودولي – ممثلاً شرعياً ووحيداً أبدياً للشعب الفلسطيني، وبهذا فقد أغلقت "فتح" الباب في وجهة مشاركة القوى السياسية الأخرى في العمل للقضية الفلسطينية بفعالية، ومنعتها من ممارسة عملية الإصلاح الداخلي، ولم تسمح "فتح" لهذه القوى بالمشاركة إلا ضمن حدود ضيقة تضمن التفرد الفتحوي، ولا شك أن النظام الرسمي العربي يريد هذا التفرد ويدعمه لأسباب معروفة.
ولقد استغل أعداء الشعب الفلسطيني الغربيين والصهاينة صفة "م.ت.ف." وسيطرة "فتح" عليها للقضاء على الطموحات الفلسطينية، خاصة عندما بدأت مسيرة الجهاد الفلسطيني تأخذ منحى جدياً منذ اندلاع الانتفاضة الأولى المباركة، فعمل رعاة المخطط الصهيوني من الغربيين والعرب على مساعدة "فتح" في السيطرة على الأوضاع كافة وتحقيق تفردها واحتكارها السياسي، فتحولت "فتح" منذ تلك اللحظة إلى شريك استراتيجي للاحتلال الصهيوني بغطاء عربي ودولي، وحينها شكلت سلطة أوسلو – التي أتت على ظهر أموال الدول المانحة – استنزافاً خطيراً للشعب الفلسطيني وقواه السياسية المجاهدة.
فشعبنا الفلسطيني بات يعاني من استنزاف مقاومته وجهاده وصموده، ووحدته السياسية والجهادية والاجتماعية، وصورته المشرقة المشرفة لدى الرأي العام العربي والإسلامي والعالمي، بل إنه بات يعاني من استنزاف مستمر لطاقات شبابه الذين انخرطوا في الأجهزة الأمنية التابعة لعباس، والذين اقتصرت وظيفتهم في التنسيق الأمني مع الاحتلال الصهيوني ضد المقاومة الفلسطينية وملاحقة المقاومين والتجسس عليهم والوشي بهم.
والآن لم يعد لحركة "فتح" أي هم أو برنامج سياسي غير توجيه عناصرها وكوادرها إلى التخطيط للمناكفات مع القوة التنفيذية – التي تصون أمن المجتمع الغزي واستقراره وسلامته – وإثارة الفوضى والفلتان، عبر تسييس صلاة الجمعة المباركة والمناسبات الشعبية الاجتماعية، في محاولة يائسة لإعادة التفرد الفتحوي وإقصاء "حماس" والالتفاف على خيار الشعب الفلسطيني.
والأجدر بحركة "فتح" أن تسعى للتعاون مع القوى السياسية المجاهدة على قاعدة عدم الاستسلام للعدو الصهيوني المتغطرس، ومقاومته حتى دحره عن أرضنا وتحرير مقدساتنا وتقرير مصيرنا، واللجوء إلى الحوار على أسس سليمة مع "حماس" وكل فصائل المقاومة.
ولا يُقبل أن تبرر "فتح" ما تقوم به من استنزاف وطني شامل بسعيها للمحافظة على وجودها، هذا الوجود الذي يعتمد على تفردها وهيمنتها واحتكارها للسلطة، وفرض برنامجها السياسي الانهزامي على الجميع، وإقصاء الآخرين، والسيطرة الكاملة على كل الأمور التي لها تداعياتها الخطيرة على القضية الفلسطينية ومصير الشعب الفلسطيني، لا يمكن أن يستمر في ظل إصرار الشعب الفلسطيني على الإصلاح والتغيير والتحرير.
ومن هنا، كان لا بد من وقفة فصائلية جادة لإنهاء عملية الاستنزاف الوطني الخطيرة، وتضميد الجراح، وكف الانتهازيين عن العبث بمستقبل شعبنا والمتاجرة بقضيته، ومن يصمت من الفصائل على هذا الأمر الخطير، فهو شريك في جريمة الاستنزاف الوطني.
06/09/2007م
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية