لم يعد السوريون المحصورون داخل سوريا، لاسيما مناطق النظام، بحاجة إلى من يخبرهم أن الأسوأ ينتظرهم، فهم يدركون ذلك بحسهم العفوي، سواء عندما يتسوقون من بائع الخضار حاجاتهم البسيطة، أو يراقبون شاشات الصرف وهي تومض بألوانها كل بضع ساعات معلنة ارتفاعا جديدا في الدولار، الذي يسعر وفقه كل شيء في البلاد تقريبا، بما في ذلك، وللمفارقة الساخرة، الرشوة التي يشيع دفعها في دوائر النظام لتسيير معاملة ما.
لكن لكلام الخبراء المدعوم بالأرقام وقع آخر، يمكن أن يضع السوريين أمام حجم الكارثة، التي يختصرها أحدهم بقوله: "الاقتصاد السوري أساسا سيء جدا، وقد دخل في طور الأسوأ"، وفق ما تنقل "ميدل إيست آي" في تقرير مطول، حاولت "زمان الوصل" تلخصيه وترجمة أهم ما ورد فيه.
يركز التقرير على تأثر الأوضاع الاقتصادية بما يجري في لبنان، وإلى أي مدى كانت وستكون عواقب ما تشهده الشقيقة الصغيرة مدمرة على الشقيقة الكبيرة.
*من هنا بدأنا
عندما شهدت سوريا حمى التأميم في ستينيات القرن الماضي، وصل الخطر إلى البنوك الخاصة التي كانت مزدهرة، فهربت برؤوس أموالها إلى لبنان، وهناك أسس الأثرياء السوريون مصارف أخرى، أضافت الكثير لقطاع المصارف اللبنانية، ومنها على سبيل المثال "بنك بلوم"، ثالث أكبر بنك في البلاد، والذي تديره عائلة الأزهري السورية.
وطوال العقود اللاحقة بقي لبنان بمثابة متنفس ونافذة لسوريا، الحكومة والشعب، لتأمين الاحتياجات من العملات الأجنبية، لاسيما الدولار، وتعزز موقع بيروت كمركز صرافة لدمشق.
وحتى عندما سمح النظام بافتتاح شركات الصرافة والبنوك الخاصة، بقي الاعتماد على لبنان قائما، وقد أشارت إحدى البرقيات الأمريكية المسربة من عام 2008 إلى وجود شخصيات مقربة من بشار الأسد لديها حسابات بأسماء مختلفة في لبنان، بمن فيهم رامي مخلوف.
إذن فالعلاقات المالية والمصرفية بين سوريا ولبنان قديمة، بل هي تاريخية وفق ما يرى "جهاد يازجي"، المسؤول عن مجلة "سيريا ريبورت" الاقتصادية، الذي يتحفظ على تقديرات الأموال "السورية" المودعة في لبنان.
وينبه "يازجي" إلى أن هناك معايير سرية مصرفية تحكم القطاع في لبنان، ومن هنا يصعب تتبع الأموال العائدة لأفراد سوريين، معقبا: "صحيح أن الكثير من السوريين لديهم حسابات في لبنان، خاصة الدمشقيين، لكن القول بأن السوريين لديهم ودائع بـ20 مليار دولار أمر مبالغ فيه".
في صيف 2011، ذكرت مجلة "إيكونوميست" أن حجم الأموال التي هربت من سوريا إلى لبنان يعادل 20 مليار دولار، فيما أشارت تقارير أخرى إلى أن الودائع السورية تمثل ما بين 10 إلى 40 في المائة من إجمالي الودائع في لبنان، وذهبت "فاينانشال تايمز" إلى أن 80% من السوريين الأثرياء احتفظوا بأموالهم في لبنان.
ومع تزايد العقوبات المفروضة على نظام الأسد، كان لبنان يحاول إظهار أن قطاعه المصرفي ملتزم بتلك العقوبات، فأغلق حسابات شخصيات شملتها العقوبات، وقلل صلاحيات آخرين في مجالس إدارة فروع بنوكها في سوريا، مثل رامي مخلوف في بنك "بيبلوس سوريا"، وأحمد الكزبري في بنك الشرق.
وحسب دان عزي، الرئيس التنفيذي السابق لشركة "ستاندرد تشارترد "في لبنان فإن المصارف كانت مترددة للغاية في السماح للمواطنين السوريين بفتح حسابات، حتى أولئك الذين لم ترد أسماؤهم في لوائح العقوبات.
*الرئة
في 2014 مضت واشنطن في قانون منع التمويل الدولي لحزب الله، وجددت نسخة منه في عام 2018؛ ما جعل القطاع المصرفي في لبنان يكافح لإظهار نفسه مرة أخرى بمنأى عن مليشيا حزب الله ونشاطها العسكري في سوريا.
في أوائل عام 2016، قدّر صندوق النقد الدولي أن سوريا لديها نحو مليار دولار من احتياطي العملات الأجنبية، أما البنك الدولي فرأى أنها هذه الاحتياطات لاتتعدى 700 مليون دولار، وعلى كل الأحوال كان كلا الرقمان كارثة، مقارنة بـ20 مليار دولار كانت تملكها سوريا عام 2010، وفق يازجي.
وبموازاة تهاوي الاحتياطي النقدي، دخلت الليرة في منحدر خطر، فتقهقر سعر صرفها أمام الدولار إلى 400 ليرة عام 2016، بعدما كان بحدود 47 ليرة عام 2010.
ومع بداية 2019، تهاوى السعر إلى 535 ليرة مقابل كل دولار، ثم 663 ليرة بحلول شهر تشرين أول/أكتوبر، مع فرض لبنان إجراءات مشددة على تحويلاته الخارجية ومحاولة إصلاح الثغرات في النظام المالي.
وفي منتصف تشرين أول 2019، اندلعت انتفاضة في لبنان، ما دفع البنوك إلى إغلاق أبوابها لمدة أسبوعين، وفرض قيود على عمليات السحب بالدولار الأمريكي.
وهكذا صارت دمشق بين مطرقة العقوبات وسندان الأزمة في لبنان، البلد الذي كان يمثل الباب الرئيس أمام سوريا للحصول على الدولار"، وفق ما يقول مصرفي سوري، وقد سد هذا الباب مع اندلاع الأزمة في لبنان.
وانعكس الوضع في لبنان سريعا على سوريا، واتضح إلى أي مدى اعتمدت دمشق على الرئة اللبنانية، بعد أن صار سحب الدولار من المصارف اللبنانية عملية معقدة ومقيدة، ولم تعد سهلة نسبيا كما كانت سابقا.
*طريق بديلة
في منتصف شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، صار سعر صرف الدولار الواحد يعادل 822 ليرة سورية، ومع تقييد القطاع المصرفي اللبناني عمليات السحب من الدولار بسقف 300 دولار أو أقل في الأسبوع الواحد، استمر تدهور الليرة السورية فوصل سعر الدولار الواحد إلى ما يقرب ألف ليرة.
وقال مسؤول في أحد البنوك الكبرى بلبنان إن الضغط المالي على لبنان، كشف جميع الدول المرتبطة بقطاعه المصرفي، ومن الواضح أن سوريا كانت تعتمد اعتمادا كبيرا على القطاع المالي اللبناني.
وتابع: الجميع يعلم أن سوريا تستخدم لبنان للتهرب من العقوبات، وبالتالي فإن ما حدث ليس مفاجأة. لقد جمدت المليارات، وكان التأثير المباشر هو انخفاض قيمة الليرة السورية.
وفيما يؤكد "دان عزي" أن السوريين لديهم إيداعات بمليارات الدولارات في لبنان، وأن الجزء الأكبر منها أموال مشروعة (لا شبهات عليها)، فإن هناك أموالا غير مشروعة تعود لكيانات وأشخاص خاضعين للعقوبات، وهؤلاء استخدموا لبنان كممر للوصول إلى الأسواق الدولية لشراء البضائع، أو لشراء عقارات في موسكو من خلال شركات واجهة لديها حسابات مصرفية في لبنان، وهذا ما يقر به مصرفي سوري سابق.
ويقول هذا المصرفي الذي فضل حجب هويته، إن محافظ مصرف لبنان درج على نفي استخدام السوريين للقطاع المصرفي في بلاده كبوابة، ولكن الواقع أن في هناك مليارات "سورية" في بنوك لبنان، والسوريون يرغبون في استعادتها.
ويرى "دان عزي" أن الأزمة التي دفعت لتجميد سحب الدولار من المصارف، بما في ذلك دولارات "السوريين" شكلت "أمرا سيئا للأسد، ولكنه كان جيدا للقطاع المصرفي اللبناني"، الذي أدار الأزمة عبر هذه الإجراءات المشددة.
ويلفت "عزي" إلى إن السوريين باتوا مثل اللبنانيين في ورطة، وعلى السوريين بالذات استخدام قناة أخرى، ستكون أكثر تكلفة.. إذا كان السوريون قادرين على سحب الأموال، فسيكون ذلك بالليرة اللبنانية، التي يجب تحويلها إلى الدولار.
*نزيف بـ100 مليار
الليرة اللبنانية مثبتة رسميا أمام الدولار، وبواقع 1507 ليرة لبنانية مقابل كل دولار، ولكن هذا السعر الرسمي في واد، وسعر التداول الحقيقي في واد آخر، فسبب نقص المعروض من الدولار، فإن تبديل دولار واحد يقتضي دفع أكثر من 2400 ليرة لبنانية، أي بزيادة تعادل 60% مقارنة بسعر الصرف الرسمي.
وهنا يعلق تاجر صرافة: "يوجد سعران، أحدهما في البنوك، لا يستخدمه أحد، والآخر في مكاتب الصرافة لدينا، وهو أعلى بنسبة 60 في المئة".
وإزاء الوضع المزري في لبنان، تستفحل الأمور أكثر في سوريا، وتصبح حركة التجارة استيرادا وتصديرا أكثر عرضة للتأثيرات، فالدولار هو الحكم هنا، والحاجة إليه قائمة في جميع الصفقات وعلى مختلف المستويات، وهذا ما يدفع "يازجي" للقول: "الاقتصاد السوري أساسا سيء للغاية، وهو مقبل على الأسوأ. ومهما كانت نتيجة الانتفاضة في لبنان، فإنها ستكون سلبية للغاية على سوريا، وعلى الأعمال وللشعب فيها".
تحذير لا ينطلق من فراغ، فمستوى الثروة الوطنية (ما يملكه بلد ما من أصول بعد طرح ما عليه من ديون) في سوريا بات عند عتبة 21 مليار دولار، بعد أن كان يعادل 117 مليار دولار، قبل عام 2010، أي إن سوريا نزفت من ثروتها الوطنية قرابة 100 مليار دولار، في وقت هي أحوج ما تكون لكل دولار، لترميم ولو جزء بسيط من الخراب الذي أحدثته الحرب.
وإلى جانب كل ما تم ذكره، يأتي قانون "قيصر" الذي أقرته واشنطن ليزيد صورة المشهد قتامة، فهو يجعل كل من يتعامل مع كيانات النظام وأفراده عرضة للدخول في مواجهة مع الولايات المتحدة، وسلوك طريق محفوفة بكثير من المخاطر.
زمان الوصل - ترجمة
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية