أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الإعلام... القاتل الصامت*

أرشيف

بحكم متطلبات عملي، واختصاصي، وما يجري في بلدي الحبيب، ونهمي بقراءة الصحف الأجنبية والعربية، كل ما سبق جعلني بمرور الوقت أقرأ حوالي خمسين مادة صحفية في اليوم أو على الأقل أزور حوالي خمسين من مواقع الصحافة والإعلام والدراسات الأجنبية، وعلى مدى أكثر من خمسة أشهر ثبت عملياً ما كنت قد تعلمته نظرياً أيام قيامي ببحث الدكتوراه خاصتي، والذي تناول في جزء كبير منه لغة الأخبار وكيفية إيصال رسائل خفية تؤثر في وعي القارئ، وبمرور الزمن قد تؤثر على مواقفه وتساهم في تشكيل تصوراته، وقد تُغّير مفاهيم كانت راسخة عنده وعند أجداده لعشرات السنين.

بادئ ذي بدء دعونا نتفق أن كل ما يتم تداوله في الصحافة والإعلام هو ليس تغطية لحدث معين بل تغليف لسياسة محددة وتكريس لإيديولوجية بعينها، فعلى سبيل المثال لا الحصر، وردت في بيان النائب العام السعودي حول مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي عبارة "تم تجزئة الجسد" وهي عبارة استوقفتني مطولاً، لماذا لم يقل "تقطيع الجثة"؟ً إنه يريد اختصار أو تلطيف جريمة بشعة وتقطيع جسد وتذويبه بأحماض عبر استخدام عبارات لطيفة لتمييع وتقزيم جريمة نكراء، وهذا ما يسمى بالإنجليزية (euphemism) أي لطف التعبير، وما قامت به قناة العربية حين بثها للبيان، ليس من باب الفهم الدقيق وإتقان فنون العمل الصحفي، بل هي فطرة الإعلامي في بلدان العالم الثالث والتي تدفعه تلقائياً لتلميع كل ما يسر الحاكم وتقزيم كل ما يسوؤه.


وبالعودة للسبب الذي كُتبت هذه السطور لأجله، كنت أتلمس في بداية الربيع العربي ما حسبته موضوعية في تغطية الغرب لثورات الربيع العربي، فمثلاً استخدم الصحفيون كلمة Revolution لوصف الثورة وRevolutionaries لوصف الثوار، وهي كلمات ذات مدلول إيجابي "Positive connotations" في الثقافة الغربية والتي يقابلها في اللغة العربية "ثورة" و"ثوار".

لكن وبعد مرور عدة سنوات برزت أنياب الصحافة الغربية ونهشت الثورات العربية وقزّمتها تدريجياً، فالآن يستحيل على القارئ العربي أن يقرأ كلمة ثورة أو ثوار في الإعلام الغربي (والعربي أيضاً لأنه حذا حذو الغربي)، بل استبدلتها الصحافة الأجنبية بكلمات مثل Rebels- Rebellion، والتي تحمل في طياتها معنى سلبيا جداً وتعني تمردا ومتمردين، وCivil war والتي تعني حرباً أهلية (وهنا تكريس لمبدأ المساواة بين الضحية والجلاد) وفي أحسن الحالات يستخدمون كلمة (ٍSyrian Crisis) والتي تعني الأزمة السورية.


وقد يسأل سائل: لماذا لم تقم الصحافة الأجنبية منذ البداية بتشويه الثورات والحراك الشعبي؟ ولماذا انتظرت سنين طوال لتقوم بذلك؟ هنا أقول له: إن الشعوب العربية التي طفح بها الكيل وتنفّست الحرية بعد عقود من القهر لم تكن لتسمح لأي أحد بالمساس بأعظم إنجاز حققه شباب الربيع العربي، وهو كسر حاجز الخوف، والثورة على الطغيان، ولذلك اتخذت الصحافة الأجنبية منحى مختلفا وتبنّت فكرة أن قطرة ماء مستمرة قد تفلق الصخرة عبر السنين، لكن سكب برميل من الماء دفعة واحدة لن يجدي نفعاً، وترافق ذلك مع سياسات قذرة على الأرض للنيل من الثورة كمفهوم وجعلها سبباً مباشراً لما حدث من فوضى وإرهاب في المنطقة العربية.


لم يكتف الغرب بقتل كل ما هو جميل في الربيع العربي وتحويله إلى خريف الفوضى والإرهاب، بل وصل بهم الأمر إلى المساس بالمعتقدات الدينية وتشويه صورتها وتقزيم كل ما هو كبير وتدنيس كل ما هو مقدس في ثقافتنا الإسلامية ومجتمعاتنا الشرقية، وكل ذلك حصل وما يزال يحصل بموافقتنا وعن طيب خاطر بعد أن اعتدنا بل واستطبنا السموم التي يبثونها في وجبات إعلامهم المشبوه، وإذا ما استغرب القارئ مما ذكرته أعلاه، أقول له تعال بنا نستذكر بعض المصطلحات كيف كانت قبل الربيع العربي وكيف أصبحت الآن، وخير مثال على ذلك كلمة الخلافة (Caliphate)، حيث كانت كلمة "الخلافة" كلمة مشرقة تحمل في طياتها كل معاني العز والفخار والفتوحات، تحمل في طياتها تاريخ سادتنا الصديق وعمر وعثمان وعلي، تحمل في طياتها العدل والتسامح والصدق والإخلاص، لكن سياسة الغرب (وداعميها من المستعربين) قتلت مفهوم الخلافة الإسلامية للأبد عبر اختزالها بتنظيم إرهابي أسود وتصدير نموذج داعش الإرهابي للعالم على أنه الخلافة الإسلامية، فلم يرد مرة ذكر كلمة خلافة في الصحافة الغربية (والعربية) إلا ورافقها جريمة حرق أو قتل أو صلب أو رجم أو تفجير، مما وأد الجانب المشرق لهذه الكلمة واستبدله بجانب لا يقل سواداً عن نواياههم.


هذا مجرد مثال فقط وهناك عشرات الأمثلة الأخرى التي أقرؤها يومياً في الصحف الأجنبية، فهناك مثلاً مفهوم "الجهاد"، وبمرور الأيام قامت الصحافة السوداء بإلصاق كلمة جهادي (Jihadist) بكل من استساغ القتل والدموية، فمصطلح الجهاديين أصبح رمزاً للتطرف والإرهاب في كل الصحف الأجنبية بعد أن كان ذروة سنام الإسلام في سلم العبادات، وأنا على المستوى الشخصي لم أقرأ قط كلمة "جهاد" في سياق إيجابي، على العكس كلما وردت كلمة جهاد أو جهاديين يتهيأ القارئ بشكل تلقائي لسماع خبر دموي أسود، وهنا تحديداً يكمن مدى نجاح الغرب في التأثير على وعي القارئ بل وقولبة موقفه تجاه مصطلحات كانت بالأمس القريب من الركائز القوية في عقيدته.


وأخيراً، مصطلح حرية الصحافة أو حرية الرأي، وهو بضاعة مستهلكة استطاع الغرب تسويقها ببراعة عبر زبائنه في العالم العربي ممن استفحلت لديهم عقدة المغلوب تجاه الغالب، ومع الأسف الشديد استطاع الغرب عبر أدواته الإعلامية من تكريس عقدة الخواجة في الشرق، مما أطلق العنان لبعض أبناء جلدتنا ممن لهثوا وبسرعة كبيرة إلى مواكبة "الحداثة" و"التطور الغربي" عبر مهاجمة دينهم أو دين أشقائهم في الوطن ليظهروا بمظهر المثقف المنفتح، وأنا أشفق عليهم جداً إلى أن يدركوا أن من باعوا حضارتهم ودينهم لأجله حريص على حرية بقرة في الهند أكثر من حريتهم.

*د. عامر المصطفى. باحث أكاديمي
(190)    هل أعجبتك المقالة (162)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي