في كل مرة يحتد فيها النقاش، ويا لكثرة ما يحتد، حول صواب مقولة "التاريخ يعيد نفسه"، يستعين المدافعون عن صحة المقولة بأحداث وصور، تثبت من وجهة نظرهم بأن التاريخ لا يعيد نفسه فقط، بل إنه "يكربن" (ينسخ كربونيا) نفسه أحيانا.
مناسبة المقدمة أعلاه، الصور القادمة من التشييع الأولي لجنازة الإرهابي قاسم سليماني في حي الكاظمية ببغداد، حيث خلفت إحدى تلك الصور موجة من الصدمة والاستهجان طورا، وجرعة عالية من السخرية والتهكم أطوارا أخرى، وهي تظهر نعش القاتل الستيني محمولا على متن سيارة أمريكية من طراز "شيفروليه".
بدا المشهد غريبا ومستغربا، بل ومتخطيا كل حدود السوريالية.. جنرال قضى حياته يهتف بلكنته الفارسية "مرگ بر آمریکا" (الموت لأمريكا) ثم قتلته طائرة أمريكية، فتم نقل ما تبقى من أشلاء جسده المتفحم في تابوت تقله سيارة أمريكية، وسط جموع تنادي بالثأر من أمريكا.
ربما قال قائلون من المدافعين عن طهران إن هذه اللقطة استثناء جاءت وسط جو من الحزن كئيب وثقيل، تشت فيه الأحلام وتذهل العقول، ثم إنها في النهاية تجسيد لواقع "لا جود إلا من الموجود"، والعراق المسيطر على قراره إيرانيا غارق بالبضائع الأمريكية، ومنها السيارات، وهذه المفارقة الأخيرة تذكرني بزميل أبدى قبل سنوات استغرابه من أن تكون لبلد متخلف مثل كوريا الشمالية سفارة منذ عقود في دمشق، فيما ليس هناك لجارتها الجنوبية المتطورة أي تمثيل لدى نظام الأسد، فأجبته بأن عليه أن ينظر إلى عدد السيارات الكورية الجنوبية التي تمشي في شوارع سوريا، ليعرف بالفعل من لديه تمثيل حقيقي في سوريا ومن هو صاحب التمثيل الوهمي.
وفي المقلب الآخر، وقع المناهضون لطهران ومحورها على صورة تشييع سليماني فوق عربة أمريكية، وكأنهم وقعوا على كنز، ودليل غير مسبوق يسقط ورقة جديدة من الورقات القليلة التي يداري بها "محور المقاومة" عورته.
ولكن استعادة الأحداث والصور القادمة من طهران قبل نحو 41 عاما، تخبرنا أن المدافعين والمناهضين على حد سواء جانبوا الصواب، عندما عدوا لقطة تشييع "سليماني" استثناء خارج السياق، أو "اللقطة اللقطة"، أي تلك الصورة غير المسبوقة والتي لا تقدر بثمن.
ففي 1 شباط عام 1979 عاد "آية الله الخميني" من "باريس" على متن طائرة للخطوط الفرنسية، وكان أول ما فعله بعد أن ترجل من الطائرة (ليقود الثورة!) أن امتطى عربة أمريكية من طراز "شيفروليه" وشق بها صفوف المحتشدين لاستقباله.. أي إن أول ما فعله "الخميني" معلم سليماني ومرشده الأعلى -هو وغيره من القتلة-، هو آخر ما "فعله" (أو فُعل) لسليماني قبل أن يدفن، وهنا يبدو التلميذ على خطى أستاذه بالمليمتر، وربما بالنانو متر.
صورة الخميني التي التقطتها ونشرتها وكالة الصحافة الفرنسية عام 1979 (نفس الوكالة التي نشرت صورة تشييع سليماني عام 2020)، تقف كشأن صور تلك الأيام عند حدود الأسود والأبيض، لكن روايات من عاشوا الحدث أو وثقوه لاحقا "تلون" لنا اللقطة.
ففي كتابه "شبح الخميني" يؤكد الصحافي البريطاني "كون كوغلين" أن الخميني كان يركب سيارة من طراز شيفروليه بيضاء وزرقاء اللون قادها "محسن رفيق دوست"، الذي تولى لاحقا منصب أول وزير للحرس الثوري الإيراني (أنشئت وزارة الحرس الثوري عام 1982، ورفيق دوست نفسه من كبار مؤسسي الحرس الثوري).
أما "كاميليا انتخاب فارد" فتروي في مذكراتها الفريدة كيف شاهدت بأم عينها الخميني مستقلا سيارة "شيفروليه" الزرقاء والبيضاء اللون، كما تشير في تلك المذكرات إلى نقطة ذات دلالة بالغة حين تقول إن كل من كانوا في إطار الصورة التي التقطت لـ"الخميني" لدى نزوله من الطائرة الفرنسية في الأول من شباط 1979.. كلهم اختفوا، إما قتلوا أو همشوا، باستثناء 3 هم الخميني وابنه أحمد والطيار.
المثير للانتباه، أن الإيرانيين الذين رضعوا تقديس الخميني ورفعه إلى مراتب لم يؤتها بشر، درجوا بعد "غيبته" على تبجيله بطريقتهم، فأقاموا لشخصه بل ولأشيائه مجسمات من الورق المقوى، وعاملوا تلك المجسمات وكأنها حقيقية، فجعلوها تنزل من الطائرة فيما يصطف حرس الشرف بالزي الرسمي والسلاح المعتاد لاستقبالها، وأدخلوها جلساتهم ومجالسهم (حضر الخميني جلسة لوزير التربية!)، ويمكن لأي مهتم أن يفتح محرك البحث ويكتب عبارة " امام مقوایی" الفارسية (وتعني الإمام المصنوع من الورق المقوى) ليرى عشرات الصور التي نقلتها وكالات رسمية إيرانية وعالمية في هذا الشأن.
أما الأشياء التي ارتبطت بالخميني فحدث ولا حرج، فقد تباهت مدن إيرانية مختلفة بتشييد مجسمات لطائرة "الجامبو" التي هبط "الإمام" منها، وكذلك لسيارة "شيفروليه" بلونها الكامل (الأزرق والأبيض) بل وحتى بلوحتها ذات الرقم "THE-27520".
وأخيرا فإن ركوب "الخميني" لسيارة "شيفروليه" الأمريكية، لم يكن عرضيا، ولا مقتصرا على واقعة قدومه إلى طهران لركوب "الثورة"، بل إنه امتطى هذه السيارة غير مرة، ومن إحداها زيارته المشهودة إلى "قم" أقدس مدن الإيرانيين، والتي درس "الخميني" ودرّس في حوزاتها سنوات طويلة.
إيثار عبدالحق - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية