عندما استلم (حضرته) منصب محافظ مدينة حلب، وانتهى من جوقة المهنئين، قال له مدير مكتبه إن عدداً من التجار يريدون أن يولموا له في ضاحية حلب التي تدعى (مونتي كارلو)، ولأنه مباشر وصريح قال: هلق أنا لازمني لحم وخواريف!؟
فضحك الموظف النبيه وقال: سيدنا كلشي موجود.
كانت مجموعة التجار تريد إيجاد طريقة لشراء المحافظ نفسه، وكانوا يحتارون حول الطريقة الأنجع وحول السعر، فلم يكن حضرته على (البرايس ليست) بعد.
وصل المحافظ إلى (مونتي كارلو) بعد أن شرح له مدير مكتبه كيف ستسير الأمور، وبأن المضيفين قد اتفقوا على إكرامه بطريقتهم الخاصة، وبدأت جلسة السمر والمنادمة، ثم دعاه أحدهم إلى لعبة (طاولة) ووافق، وكان الاتفاق المسبق أن يتركوه يربح بالطبع، فلا أحد من الموجودين يريد أن يربح (دق طاولة) ضد المحافظ بل يريد أن يربح بدق المحافظ !.. ولقد وصل ذكاء منافس المحافظ في اللعب، أن اقترح عليه أن يتراهنا على كل لعبة، ووصل الرهان إلى مبالغ غير قليلة، ثم فجأة قال الرجل:
-أظن أنها سوف تمطر بعد قليل.
اندهش المحافظ وكان الزمن شهر آب (اللهاب) وقال ضاحكاً:
-مطر !! الآن؟ في حلب؟ مستحيل..
-سيادة المحافظ أنا ابن حلب مو حضرتك، وإذا بدك مني عشرين مليون، ومنك مئة ألف !! وخلال أقل من ساعة سوف تمطر ونحن نلعب الطاولة !! وللحظة عندما سمع المحافظ كلمة عشرين مليون، فهم الفكرة وتذكر كلام سكرتيره، وصاح: موافق ولن تمطر ! ..
عندما عاد المحافظ – طبعاً – إلى منزله كان يحمل كيساً فيه مبلغ العشرين مليون ليرة، فلم يستطع المضيفون إيجاد حقيبة مناسبة، ولقد أسميت هذه الحادثة (حادثة الكيس) وصاحبها (أبو كيس).
أما هو فلقد أعجب أيما إعجاب بذكاء معزبيه (مضيفيه)، وقرر أنه لن يكف عن الرهانات طوال مدة حكمه للمحافظة ! وهكذا كان.
المهم في هذه القصة أنها كانت مثار تندر في أعلى هرم السلطة، ومكاتب الضباط، وبقي المحافظ على رأس عمله، لا بل وصار التجار المذكورون في منزلة عليا لدى كل المتنفذين وجزءاً أساسياً من الدولة العميقة، وكان اسمهم (جماعة الشرط) يعني جماعة الرهان، والكل صار يراهنهم على أنها ستمطر في آب !
هذا المحافظ صار رئيساً للوزراء، فيما بعد ! وكان يحمل أهم شهادة أهلته لهذا المنصب وهو (الملف) الضروري لكي يخرس في كل منازلة تحتاج إلى قلمه الأخضر، تماماً مثله مثل كل رؤساء الوزارة – ما خلا البعض القليل – فلم يكونوا سوى متواطئين مؤهلين مسبقاً لاحتكار خيرات البلاد لعدد من اللصوص والنافذين الذين شكلوا عصابة الدولة العميقة .. فوصل المشهد إلى الموت والدم والبرد والجوع لأطفالنا.
فكم ثورة كانت تحتاج البلاد؟
عاشت سورية
*أستاذ جامعي سوري - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية