أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

لنجوى قاسم... تكفينا دمعتك الواحدة.. عبد الرزاق دياب*

الكاتب: من حقها علينا أن لا ننكأ موتها بما فينا من لوثة السنوات الدامية الطويلة

بينما كانت أصوات إعلاميي الوطن تمعن في انتهاك موت السوريين، وترى في موتهم مجرد تمثيلية مخادعة، وفي دمهم المسال طلاء أظافر أحمر، وبروبوغندا مصنوعة في استديوهات الجزيرة والعربية، وفي لهاثهم تحت المطر نزهة ممتعة أو صلاة استسقاء..كان هناك من يراها حقيقة شعب مطارد بالرصاص.

كان محللو القنوات (الوطنية) يرجمون القتلى بأفظع الصفات واللعنات، ويرون في موتهم نهاية حقبة إرهاب وارتهان، وفي الرصاص الذين يطاردهم حرباً مقدسة على الخونة والعملاء، وفي البراميل لعنات السماء على من باع وطنه بخمسين دولاراً.

كانت المذيعات الوطنيات يستجوبن الموتى في داريا، ويلتقطن الصور مع جثث الإرهابيين في حلب، والناشطون من الشبيحة يتقدمون القوات التي تعتقل الناس وتداهم البيوت والشوارع، وفي سهرة الفضائيات المناضلة كانت صور الجثث المقطعة وجبة أبدية تشرح للإخوة المؤيدين كيف يمارس المتوحشون إجرامهم دون رحمة بحق الجنود المساكين والطوائف المرتعشة.

كان صحفيو المزاد السوري يتهمون كل من يتحدث عن الفساد أو يطلق بعض التأفف بالخيانة والعمالة، وحتى أولئك القابعين في أقصى اليسار مارسوا تشبيحاً فوق تشبيح البعثيين خشية من خروج اللحى المتأسلمة من بين أعناق المعارضين الذين ربما يحرمونهم من ممارسة طقوس الانفلات باسم محاربة "أفيون الشعوب".

القنوات الشقيقة مارست أيضاً صمتها عن المذبحة فهي إما لا ترى ما يحدث في تلك الأرض المسكينة نتيجة العماء الإنساني، أو أنها تنفذ أوامر الشيوخ والتجار وأنصاف الساسة في غض الطرف أو الوقوف على الحياد، وأما تلك التي ترفع شعارات المقاومة فقد برعت في صناعة التهم والتحريض..فهؤلاء الموتى إما إرهابيون أو مجاهدو نكاح، وجماعات سلفية تريد سبي من بقي من آل البيت في السيدة زينب وقمْ، حيث يتردد صدى العتبات المقدسة المظلومة. في كل ما سبق كان لا بد من نافذة للمذبوحين والضحايا..بعض الصوت وقليل من صورة المشهد الدموي، وتعاطف انساني من مذيع أو صحفي أو سياسي في بلاد العرب المفتوحة على الخراب، والبعض تمنى لو دمعة واحدة تقول للقتيل أنا مع دمك المباح..فعلتها نجوى قاسم رحمها الله.

قد يتنطع البعض إلى ما فوق ذلك من ألاعيب السياسة وأدوار القنوات وارتهاناتها، وقد يصل الأمر بقلة منهم إلى الشماتة في الموت أو تسييسه، ومقارنته بموت آخر، ولكننا نحن الذين نمارس هذه المهنة الملعونة ندرك حجم التضييق والضغط..ونجوى في كل إطلالاتها على المشهد السوري بتناقضاته وعلاته وانقساماته بقيت مع هامش الإنسان السوري المطارد في الخيام والبيوت.

لم يكن مطلوباً منها أن تفعل أكثر من ذلك، وأن تقف مع موتنا لحظة صدق واحدة، ومن حقها علينا أن لا ننكأ موتها بما فينا من لوثة السنوات الدامية الطويلة، ويكفي أنها في تلك اللحظة التي كنا فيها نستصرخ الضمائر كانت تذرف دموعها تعاطفاً وألماً..تكفينا دمعتك الواحدة أيتها الراحلة.

*من كتاب "زمان الوصل"
(244)    هل أعجبتك المقالة (258)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي