مات المفكر محمد شحرور لتشتعل ساحة الجدل حول رؤيته التجديدية في قراءة النصّ الدّيني، فهناك من يرى فيه هرطوقاً، بينما يعتبره آخرون مدرسة جديدة في التفكير والنبش.
ليس فيما يقوله "شحرور" في قضايا إعادة قراءة النص وفقاً لتفسيرات جديدة للمفردة مفاجأة فكرية، فهناك آخرون فتحوا آفاقا للتفكير والتفسير مثل محمد أركون، وكذلك في التركيز على فكرة أزمة العقل العربي المأزوم مثل محمد عابد الجابري، أو حتى قضايا الإيمان والكفر وحرية المعتقد مثل جودت سعيد، ويشترك "سعيد" و"شحرور" في تهم عمياء وجهت لهما بالانتماء إلى الماركسية، وهذا غير صحيح، حتى إن جودت سعيد دخل السجن لهذه التهمة.
يقول "شحرور" وهو أستاذ في الهندسة المدنية قبل خوضه غمار التفكير في قضايا الدّين، إن هناك "أزمة في العقل العربي الجمعي"، وهذه حقيقة يمكن تلمّسها ليس على المستوى الديني فقط، بل على المستوى الاجتماعي الثقافي، وربما يعود سبب هذه الأزمة إلى ما وصف به "شحرور" العرب بأنهم لم يرثوا العقل النقدي، حيث يرى البعض أن العقل النقدي انتهى بمحاربة "المعتزلة" في العصر العباسي، وبصرف النظر عن مدى المخالفة أو الاتفاق مع هذا النمط من التفكير، فلعل محاربته وإقصاءه كان عاملاً مهما في سيادة "العقل الترادفي" الرافض لمنهج العقل في التفكير بقضية الدين.
كثيرون هم من تأثروا بفكر "شحرور"، ووجدوا فيه منهجاً جديداً فاتحاً على أفق مختلف، فهو يرى أن تقدم الأمة الإسلامية مرهون بالتفاعل مع النص، كما أنه يفسر تاريخ الدين البشري وصولا إلى الإسلام بناء على فكرة تراكم التشريعات والقيم، وهي حقيقة لا يمكن إنكارها، وإلا فإن التاريخ الديني كان يجب أن يقف عند النبي إبراهيم، كما أن التطور البشري كان يجب أن يقف عند آدم كإنسان يملك جميع الخصائص الفيزيائية لإنسان اليوم.
يخالف كثيرون المفكر "شحرور" في تفسيره لقضايا الزواج والحجاب والربا، لكن الرجل قدّم قراءة متقدمة يمكن نقدها دون الإساءة إلى منهج العقلنة طالما أنه لا يخالف الجمهرة ولا الفكرة المقدسة بأن الإيمان بالله واليوم الآخر هي مسلمة لا يمكن دحضها أو إثباتها، وبذلك يتساوي في هذا "أينشتاين" وبائع "الطعمية" كما يقول، على اعتبار أن كل إمكانات "أينشتاين" العلمية لا يمكنها تقديم تفسير علمي يثبت وجود الخالق، وهذا هو جوهر التسليم.
يؤمن "شحرور" بالاختلاف، ويتحدث عن الحرية بكونها "غاية الخلق"، وأن "حرية الاختيار هي قدس الأقداس"، وينسحب هذا حتى على قضايا الإيمان والكفر، وهذا ما جاء به مجدّدون كثر، ومنهم جودت سعيد في كتابة "لا إكراه في الدّين"، وفي هذه السياق يمكن فهم محاربة هذين المفكرين للعنف والإكراه في نشر الشريعة، وهو ما يخالف التعاليم السماوية التي تدعو للسلام ورفض إجبار الناس على اعتناق ما لا يعتقدون به، بحيث تنتهي مهمة الدّعوة عند تكليف موسى وهارون أن يذهبا إلى "فرعون" ويقولا له "قولاً لينا"، رغم أنه طغى.
ليس المكان للغوص في الفقه، وهو غير اختصاص، إلا أننا اليوم بحاجة لألف مفكر مثل "محمد شحرور"، يجتهدون فينتقدهم أصحاب فكر آخر، من ترادفيين، وفلاسفة، وعدميين، وسلفيين، وبغير هذه المعادلة لا يمكن النهوض بالفكر الإسلامي، وتخطي طغيان التجهيل والروايات القادمة من خارج النص القرآني.
هل يعلم القارئ الكريم أن بين المعتزلة أدباء وعلماء ونحويين هم جزء من مناهج الدراسة والتاريخ التي تتلمذت عليها الأجيال، مثل الجاحظ والزمخشري وواصل بن عطاء والخليفة المأمون.
وهل يعلم أن قتل الفلسفة وهي أم العلوم في المجتمع الإسلامي هي من أخصت الأجيال، وأن الأندلس ازدهرت بفضل مفكرين فلاسفة تحديثيين منهم "ابن باجه" صاحب الأبحاث الفلسفية التي شكلت نقطة تحول في تاريخ الثقافة الإسلامية في الأندلس، والتي مهد بها لظهور "ابن رشد" رائد "الارسطوطالية"، و"ابن طفيل" صاحب "حي بن يقظان"، و"ابن سينا" حامل لواء الفلسفة اليونانية في المشرق. و"شهاب الدين يحي السهروردي" الحلبي صاحب "التيار الإشراقي"، و"إبن خلدون".
في أذن القارئ:
موجة الشتائم التي تجتاح وسائل التواصل من قبل من يعرف ومن لا يعرف، هي جزء من أزمة العقل العربي، أو حتى "العقل الجمعي" الذي يتحدث عنه الراحل "شحرور"، هي تماما نفس مقولة "هوشة عرب".. أوقفوا هذا التدمير، وانتقدوا ما لا يعجبكم، وربوا أبناءكم على حق التفكير والتمحيص والحكم.
برحيل الشحرور.. ليس لدينا "أينشتاين" ومعظمنا بائع "الطعمية"*

*علي عيد - من "كتاب زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية