أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

شوايا وحوارنة ودروز ضحايا الـ"روز بيف"... علي عيد*

تتحمل السلطة مسؤولية مباشرة عن خطاب الكراهية التي يمارسه كثيرون داخل سوريا

تشعل لغة الكراهية على السوشال ميديا معارك بين السوريين، آخرها معارك المطابخ والـ"روز بيف" وزينة الميلاد، والتي لاقت استياء لدى كثير من أبناء الريف السوري، ولا شك أن بعض ما يقال عن تباين في تطور المطابخ بين مناطق الريف والمدن في سوريا، أو حتى في كل أنحاء العالم هو أمر معروف وطبيعي تبعا لنشاط الإنسان ومشاغله وطريقة حياته ومستواه الاقتصادي.

ما سبق لا يعطي أفضلية للمدينة على الريف في سوريا مثالاُ، فالمدن التي نعشقها مثل دمشق وحلب تملك اثنين من أهم مطابخ العالم، لكنهما لا تتفوقان فكريا وثقافيا ومجتمعيا عن بقية المناطق والأرياف، فليس صحيحا أن نقيس الفارق الحضاري بين دمشق ودير الزور باتهام الثانية بأنها لا تضع طبق الـ"روز بيف" على سفرتها، وتلك مفاضلة مقذعة ومتشاوفة ليس هدفها تقييم المدينتين ثقافيا، ولا قياس مستوى التعليم العالي، أو حتى تقديم رؤية مقارنة في الفن والأدب والرياضة مثلاُ.

ماذا لو قال أحدهم إن المدن تنتج المواخير وبيوت الدعارة وهذا ما لا تجيده البيئة الريفية، وهذا غير مقبول بالطبع، أليس في ذلك إساءة لفكرة أن المكان هو جامعة ديموغرافية واقتصادية وثقافية، وأن المدينة بطبيعة الحال هي المكان الذي تجتمع فيه الخبرات من أبناء الريف، والذي تصب فيه حقول المزارعين قمحها وزيتونها وقطنها وعمّالها ومتعلّميها.

في باريس مثلا يمكنك أن تجد مطاعم السبع نجوم بأطباق لا يعرفها أبناء أرياف "البيرنيه" و"الألب" جنوباُ أو "البروتون" غرباُ، علماُ أنها تحصل على الألبان واللحوم والأجبان من الأرياف، وباريس أيضاُ جمعت فنّ وأدب وفكر مئات القادمين من الأطراف مثل "دافيد دو أنجيه" و"جول فيرن" و"رامبو" و"بودان" و"لوبون"، ويحصل هذا أيضا في كل مدن العالم.

لم نشهد في بلاد الغرب مواطنا مدينيا متشاوفاُ، كما فعل أحد المدونين من دمشق وهو يتحدث عن الزينة وشجرة الميلاد في مناطق المسيحيين، غامزا من قناة أبناء الأرياف الذين يجتمعون للفرجة، واصفا إياهم بـ "الهشت نشت" و"الحوش" و"الشوايا" والحثالة، ولو حصل مثل هذه في دولة غربية، أو دولة مواطنة حقيقة لجرى سوق صاحب التدوينة إلى المحاكم بتهمة بث الكراهية والتمييز بين الناس على أساس طبقي أو عرقي.

تتحمل السلطة مسؤولية مباشرة عن خطاب الكراهية التي يمارسه كثيرون داخل سوريا، ويتعزز الشعور بتعمد سياسة تعميق الكراهية بين السوريين عندما يخرج مناصران للنظام بل عضوان في مجلس شعب هما نبيل فياض ونبيل صالح، الأول يصف محافظة درعا بالبيئة المتخلفة، والثاني يغذّي في الطائفة "العلوية" نزعة الدّم والقتال، ويقدمها كمتفوقة وطنيا قياساُ لحملة البنادق والقتلة.

مفجع ما تعيشه سوريا، وعجيب كيف يمكن لمن يعيش فيها أو خارجها من السوريين أن يشعر بإمكان وصولها إلى مصاف دولة المواطنة طالما أن فيها من يتحدث هذه اللغة من التطييف والتمييز وشق المجتمع.

ذات مرة زرت مع أصدقاء بيت صديق في ريف السويداء، قرية "مردك"، وكنا مسلمين ودروزا ومسيحيين، لم نجد صديقنا فاستقبلنا والداه العجوزان، وأصرّا أن لا نخرج قبل تناول الغداء، وحصل أن العجوز رفض أن يضع الزاد في فمه وهو يقوم بخدمتنا، وعرفت بطريقة ما أن والد صديقنا ذبح دجاجتين لا يملك غيرهما، كي لا يخرج أصدقاء ابنه دون أن يكرمهم.

ومرة قبل نحو 30 عاماً رأيت والدي في غضب شديد لأنه عاد إلى بيتنا فوجد بوابته مغلقة، والسبب أن والدتي كانت تكنس المدخل الطويل المؤدي إلى المضافة في واجهة البيت، وكان ذلك الباب مفتوحا طوال الوقت، وهو ديدن أبناء حوران، فلعلك تستطيع أن تدخل أي مضافة فيها دون استئذان، بل وتنام وتأكل قبل أن تعرّف عن نفسك.

أما عن "الشوايا" فلا حاجة عندي لذكر كرمهم، فاسمهم هو دالّتهم، ويكفيني منهم العجيلي وتركي الربيعو وعدنان العودة وخلف الخلف.

وعلى ذكر أن أبناء الريف في درعا لا يسافرون ولا يتاجرون لذلك فهم لا يكتسبون المعارف، كما يقول صاحب التدوينة المحشوّة بالفوقية، ربما يعرف كثيرون أن أربعة من أبناء حوران فقط، وهم الزعبي والمشمش والقداح والمحاميد يملكون من المشاريع خارج سوريا وداخلها ربما ما يزيد قيمة مالية عن مشاريع التجار الدمشقيين مجتمعين، وهذا ليس تمييزا بقدر ما هو دلالة على أننا في عصر اختلفت فيه التصنيفات الاقتصادية التي تؤثر في ثقافة واقتصاد المجتمع بين ريف ومدينة، وما ذكرته عن درعا موجود في مناطق أخرى في سوريا.

كل ما سبق لا يعني مفاضلة بين الريفيين وأهل المدن، ولعل معظم سكان المدن اصلا هم من أبناء الأرياف، أو من العابرين، وللدلالة فإن دمشق اليوم هي العرب، والأكراد، وفيها التركمان، والميدان الحوراني الأصل، والدروز، والأرناؤؤط، والأرمن، والشراكس، والمزازنة الفلاحين، والجزائريين أحفاد عبد القادر، والأذريين، والبشناق، والألبان.

سوريا اليوم لا ينفع فيها تثقيف ضدّ الكراهية، إذ كيف يمكن بناء دولة عابرة للطوائف في وقت تحكم فيه سلطة الطائفة بالتحالف مع رأس المال المديني الجشع، وشيخ الدين المديني اللقلوق، وزعيم العشيرة الريفي المزيّف، والمؤدلج الحزبي القروي الانتهازي، تلك معادلة صعبة، ووصولاً إلى ضبط خطاب الكراهية على وسائل التواصل الاجتماعي، عليك أولاُ أن تدرس فكرة وقف خطاب الدّم على الشاشات وفي الصحف الرسمية.

*من كتاب "زمان الوصل"
(255)    هل أعجبتك المقالة (242)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي