أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

زعيم سوريا الحقيقي.. شاهد ومشهود

الزعيم وبشار - أرشيف

· لم يكن طيبا وعلى نياته، كما يحاول حتى بعض الأصدقاء تصويره، بل كان واعيا ومدركا ولكنه كان جريئا لدرجة اقتحام ميدان المواجهة المباشرة بنفسه.
· أسقط خرافات كثيرة لبشار، وفي مقدمتها "الرئيس الشاب"، "الرئيس لا يدري"، ونافسه في مجالات احتكرها لنفسه.
· هل يمكن أن تتوقع من شخصية زعامة إذا أدخلت يدها في جحر أفعى أن تمسك الذنب وتترك الرأس؟

ليس من شاهد على الزعامة الحقيقية في بلد بامتداد وتعقيد سوريا أولى منه، وليس من شاهد على مدى نفاق الاستبداد المتجذر في سوريا وكاشف له أكثر منه، وليس من مشهود كيوم أتى فيه هذا الرجل إلى حكومة سوريا وكيوم أخرج منها وكيوم قضى، فأتعب من بعده في مماته، كما أتعب جيشا من الفاسدين والحاسدين والمدعين والوصوليين، بل وحتى الطامحين المستحقين، في حياته.

اسمه، عصام الزعيم، وفي اسمه متسع للمرء –خصوصا إن كان صحافيا، بياع كلام بالمعنى الشعبي- ليمارس هواية التذاكي اللغوي والاتكاء على الأقوال المأثورة، فيزعم أن للرجل من اسمه كل النصيب، ولذلك فلا عجب أن يكون زعيما!، ولكن الحقيقة أن زعامة الرجل متعدد المواهب ليست بنت الإنشاء الأجوف، بل هي وليدة الوقائع والشهادات المتقاطعة عن رجل يتفق معظم السوريين على حبه والإشادة به، وهذا الاتفاق معجزة لا يمكن لأحد أن يحظى به في بلد يرى الجميع تقريبا نفسه زعيما، أو مستحقا للزعامة ولكن الحظ خانه والأيام عاندته.

أقول هذا، لأن "عصام" وحتى بعد مرور 12 سنة على غيابه، وبعد مرور 9 سنوات على اندلاع الثورة التي قدمت من الأيقونات الكثير، ما يزال الرجل الذي يتحدى التقسيمات السياسية ويعبر الحدود الطائفية ويتخطى المسافات المناطقية، ليرسم في ذهن كل "معارض" و"موالي"- وفق التقسيم المبسط للسوريين- صورة الرجل الذي يستحق التربع على عرش الزعامة، والذي تربع عليه فعليا وإن لم يبلغه نظريا.

لست في وارد تكرار معلومات عن "عصام" تخص كفاءاته وقدراته وأبحاثه ومساهماته وقراراته وهالته، التي جرت إليه الزعامة صاغرة وجعلت أي منصب يبدو أمامه ضئيلا، وجرت عليه في نفس الوقت نقمة وحوش الاستبداد والفساد، ممن لم يكن يرضيهم سوى رحيله الأبدي عن الدنيا، وليس فقط رحيله عن المنصب.

فمثل هذا السرد يعد "جافاً" بحق شخصية خصبة مثله، وباهتا أمام رجل ملون بالخبرات والطاقات والمناقبيات، التي يصعب على أي مسؤول يلج البلاط الأسدي أن لا يطرحها خلفه، باعتبارها بضاعة كاسدة، لكن "عصام" أصر على تنمية وإظهار كل تلك الألوان في البلاط الشاحب، فكشف من جهة كم هو معتم وكئيب وغارق في الدسائس هذا البلاط، واستحق –من جهة أخرى- محبة من عرفه، ومن لم يعرفه سوى بسماع الأحاديث المنقولة عنه.. محبة سرت بين الناس دون أن يعرفوا سرها، وهم الذين ران على أرواحهم طوال عقود شبح المحبة المرتبطة بـ"المسيرات العفوية" والأكف المتورمة من التصفيق، والأرجل المرهقة من الدبك في "الأعراس الوطنية"، والعيون المتسمرة على الصور والتماثيل المتجهمة.

*عمى الخطوط الحمراء
ولهذا الذي ذكرت أعلاه، سأحاول أن أنفذ إلى عمق وغنى شخصية "الزعيم"، فأغوص فيما وراء مواقفه وخصاله البسيطة منها والكبيرة، ولا أقف عند حرفيتها، لعلي أنجح في تفسير ما لا يفسر.. محبة السوريين له واتفاقهم على شخصه.

أول خصلة لـ"عصام" بوأته منصب الزعيم الحقيقي وجعلت الزعيم المزيف وأتباعه يرتعدون منه، ويجهدون في محاصرته ثم القضاء عليه.. هي أن الرجل  كان سورياً خالصا مخلصا، جعل رضا الأم سوريا ومصلحتها غايته، ولم يضع رضا "الرئيس" في المقام الأول، وهو ما يفسر جرأته على دخول كل حقول الألغام التي يحظر على الجميع مجرد "الاقتراب والتصوير"، فكيف بولوجها.

والخصلة الثانية التي شدت من عضد خصلته الأولى، هي صدقه وحزمه في تنفيذ المهام التي أوكلت إليه أو تولاها مبادرة من تلقاء نفسه، ولا أحسب أن "عصام" بعمره وخبرته كان غافلا عن مخاطر صدقه وحزمه، كما يحاول حتى بعض أصدقائه أن يصوروه، بوصفه رجلا طيبا إلى حد البساطة، فيذمونه من حيث يريدون مدحه.

بل إن الثابت أن "عصام" كان مدركا لكل تلك المخاطر وأكثر، لكنه آثر أن يمضي في طريق الصدق والحزم، وأن لا يتنكر لشخصية وسمعة بناها خلال 60 عاما، من أجل متاع من الدنيا أو السلطة قليل بالمطلق، وهو في عيني رجل ضخم الهمة أقل.

فعندما فتح "عصام" دفاتر النهب الكبير في سوق القطن السوري، كما يروي زميله الوزير السابق "نضال الشعار"، أو عندما أوقظ ملف شركة غزل جبلة من السبات، وأمر بصرف "كفالتها" للشركة الأجنبية، كما هو معروف للجميع، فإن "عصام" لم يكن ساهيا عن الأسماء المتورطة في هذين الملفين، ومع ذلك فقد أصر أن يدخل جحر الأفعى، بل وأن يمسك رأسها (بشار) لا الذنب (عشيرته الأقربون)، وهذا هو عين سلوك الشخص الذي تدين له الزعامة، وهو عين شخصية عصام الزعيم.

ولعل سوريته الخالصة وصدقه وحزمه، يتجليان في عبارة صغيرة قالها يوما على الملأ، ورواها صديقه المستشار "سام دلة" الذي ترأس من قبل "اللجنة الحكومية للإصلاح الإداري"، حيث كان "دلة" ذات يوم يحاضر في هذا الشأن، فتدخل "الزعيم" بعبارة فيها من التحريض والجدية أكثر مما فيها من المزاح منبها "دلة" إلى أنه "تجاوز الخطوط الحمراء"، فرد عليه "دلة": "الحمد لله أنني مصاب بعمى الألوان"، فما كان من "الزعيم" إلى أن قال عبارته المدوية التي تعكس يقينياته وتصيب بشار ومن حوله بالذعر لمجرد طرحها: "هذا ما نحتاج (تجاهل أي خطوط حمراء) أن نعممه، لنتمكن من البدء بالإصلاح"..؟ فهل هناك عبارة أخلص تعبيرا عن "الزعيم" من هذه، وهل هناك فكر أخطر على الأسد ومنظومته من هذا الفكر.

*تحصيل حاصل
ثم ماذا.. أهذا حقا كل ما كان يقلق بشار ودائرته من "الزعيم"؟، وإن كان هذا كل ما في الأمر فكيف يستحق "عصام" لقب الزعيم وهو الرجل الذي ما زال فعله ورد فعله منحصرا داخل دهاليز السلطة، ولم يخرج إلى الشارع.. إلى الناس المخولين دون الجميع بمنح لقب الزعيم أو حجبه.

رغم قصر السنوات التي قضاها في دائرة السلطة والمنصب، الذي لايسمن ولا يغني من جوع بمقياس المناصب بـ"سوريا الأسد"، فقد كان "الزعيم" محاصرا خشية من أن يحيي وزارة ميتة دماغيا وسريريا منذ عقود، وينطلق منها ليؤسس له قاعدة عريضة تشوش على المعجبين بشخصية الرئيس الشاب المنفتح ومطلق شرارة الإصلاح والتطوير.

اللافت أن شدة الحصار كانت تتناسب طردا مع قدرة "الزعيم" على كسره، بل والخروج بمبادرات غير معهودة في دولة تحكمها توجيهات القيادة وتعليمات السيد الرئيس ونهج الأسد، وهذا ما جعل المتربصين بـ"الزعيم" يوقنون أن لا سبيل لمواجهة "خطره"، سوى بتصفيته معنويا وفيزيائيا (جسديا)، وهكذا اتهموه في نزاهته، قبل أن يبرؤوه، وهي حركة مكشوفة من بشار وأعوانه الأقربين، الذي يعلمون أن خبر اتهام المرء في أخلاقه ونزاهته يدور الكرة الأرضية عشر مرات ويستقر في عقول أهلها كحقيقة، قبل أن يصل إليهم خبر رد الاعتبار وإعلان البراءة.

أما التصفية الجسدية فكانت تحصيل حاصل، فـالزعماء الحقيقيون من وزن "عصام" لايمكن لمئة حرب أن تهزهم أو تنال منهم، ولكن كلمة واحدة قد تقتلهم، وهل هناك أثقل وأقتل من وقع كلمة "حرامي" أو "كاذب" يُرمى بها الأمين والصادق بواسطة لص أو خائن؟!

لقد أقض "عصام الزعيم" مضجع بشار الأسد شخصيا وقبل أي أحد في النظام، فـ"عصام" هز بحضوره كثيرا من المقولات الجاهزة وكاد أن يقتلعها من جذورها، وكاد أن يشعل ثورة قبل الثورة السورية الموعودة بعقد من الزمن.

فـ"عصام" الذي يفترض أن يناديه بشار "عمو" لفرق العمر بينهما (25 عاما)، كان الناقض الأول لخرافة النظام حول أن مفردة "الشاب" الملحقة باسم "الرئيس" كافية للتدليل على منتهى الحيوية والانفتاح والتجدد في شخصه، وكافية أيضا للقول بأن سوريا عادت للدخول في مرحلة الشباب على يد "القائد الشاب" بعد عقود من مكابدة الشيخوخة المبكرة على يد أبيه.

لقد بدد "عصام" الذي تولى منصبه الأول في سوريا وهو في الستين من عمره هذه الخرافة، ونسف معها خرافة الحرس القديم والجديد التي كان بشار يطبل لها كثيرا لغايات في نفسه، اتضحت لاحقا، وتبين أن الوزير "العجوز" قادر على العطاء ونابض بالحيوية ومتسم بالمرونة ومتشبع بالانفتاح أكثر بأضعاف من الرئيس الذي ينسب لنفسه تلك الصفات، هذا فضلا عن فرق الخبرة والحنكة والتجربة الذي لا يمكن لبشار أن يدركه، فالأمر هنا لا يتعلق برتبة عسكرية تعلق على الكتف يمكن حرق مراحلها بقرار يصاغ ويوقع في دقائق، ولا بتعديل "دستوري" يمكن أن ينجز في فترة تقل عن مدة احتساء فنجان قهوة.

هذا أولا، أما ثانيا فبرغم أن "وزير الصناعة" هو ليس أكثر من منصب كمالي (الوزراء كلهم لدى الأسد كماليون، غير أن هناك من أكثر كمالية من غيرهم، فوزير التخطيط مثلا أكثر كمالية من وزير الزراعة بمراحل).. برغم ذلك، فقد جعل "الزعيم" من وزارته ومنصبه خلية نحل، وباتت الوزارة التي لم تكن تذكر في الأخبار إلا لماما من قبل، مثارا للاهتمام، أما وزيرها فحدث ولا حرج.

*يوم نزع القناع
فقد أخرج عصام منصب الوزير من إطاره الجامد، وخلع عليه من ألوان شخصيته الكريمة (معنويا وماديا) الكثير، ولذلك لم يكن غريبا أن يحظى زائر عادي لمكتبه بضيافة مميزة كأن يقدم له سلطة فواكه باذخة، في حين كانت ضيافة معظم الوزراء قهوة سادة، بلون الواقع الأسود، أو مرة بمرارة وضع البلاد، وربما كانت مقتصرة على كأس ماء، أي شراب بلا طعم ولا لون ولا رائحة!

وفي حين كان بشار الأسد في مرآة الدعاية التي سبقت توريثه ولحقته "أبو المعلوماتية والمعلوماتيين"، بوصفه الشخص الذي كان مسؤولا وموجها أوحد لـ"الجمعية السورية للمعلوماتية"، فقد كان "الزعيم" يمارس هذه الأبوة على حقيقتها، فالأب هو الذي يربي فيحسن التربية وليس الذي يكتفي بالإنجاب.

ففي بدايات عهد بشار، وبينما كانت الدعاية الطاغية تنسب له كل الفضل في "تحديث" سوريا وتعريف شعبه "المسكين" إلى المعلوماتية، كان عصام الزعيم، وزير الاقتصاد حينها، يمارس هذا الأمر فعلا لا دعاية، فانبرى لإهداء كل طالب متفوق (في الشهادتين) من أبناء موظفي وزارته جهاز حاسوب "كومبيوتر"، وهنا انكشف أيضا الفرق بين من يشجع التفوق والمعلوماتية عمليا ودون ضجيج، وبين من يصر على أن يكون التحفيز عبارة عن وجبة إنشائية دسمة، ومصحوبا بـ"زيطة وزنبليطة".

وبالعودة إلى سلسلة التحديات التي مثلها عصام الزعيم أمام بشار الأسدـ، يتضح لي أن أكبرها لم تكمن فقط في تجاوز "عصام" للخطوط الحمراء وتسمية اللصوص بأسمائهم ومواجهتهم مباشرة لا من خلف ستار، فكل تلك تحديات عظيمة ولا شك، لكن أعظمها وأخطرها أن يعمد "عصام" إلى نسف خرافتي "الرئيس المصلح" و"الرئيس لا يدري" وأمام "الرئيس" نفسه، أي تعرية وإسقاط بشار أمام بشار!.

وهذا ما فعله "عصام الزعيم" الذي تبنى الإصلاح الاقتصادي والإداري بكل جوارحه وأعطاه جل طاقته ووقته عله ينتشل سوريا من هوتها، فيما كان بشار يدعو بلسانه إلى الإصلاح والتحديث من حين إلى حين، ويحارب المصلحين بيد سطوته كل حين.

أما مقولة "الرئيس لا يدري، ولو كان يدري لتصرف" فقد سدد لها "عصام" ضربة حاسمة، حين أصر على تسليم ملف تحقيقاته بملف نهب القطن السوري إلى يد "الرئيس" شخصيا، الذي نزع يومها أول أقنعة حقده ونقص شخصيته، فعاقب "الزعيم" وحاربه وأقاله واتهمه في نزاهته، وقد كان ذلك حينها كافيا لإسقاط كل وهم حول بشار من عقول السوريين، ولكن السوريين يومها –في غالبهم- كانوا لا يبصرون.

لقد كان "عصام" زعيما حقيقيا ينازع الزعيم الوهمي والقاصر (بشار) في مجاله، وينافسه في ميادين احتكرها الأخير لنفسه، وإن بعدت الشقة بين منطلقات الأول والأخير، فمنافسة "عصام" كانت نابعة من إخلاصه ونزاهته وشفافيته التي ارتضاها مبادئ له، ومنافسة "بشار" كانت ادعاء وتشبعا بما لم يعط، ما لبثت السنوات أن حولته هباء منثورا.

*تنويه:
أتمنى على القراء الكرام أن لا تدفعهم أي عبارة في هذه المقالة إلى الاعتقاد بتشجيعي على تقديس الشخص أو عبادة الفرد، فهي في النهاية أس معظم البلاء الذي ثار السوريون للخلاص منه. فجوهر هذه المقالة هو وضع السوريين وغيرهم في صورة زعيم حقيقي قاوم زعيما وهميا بكل طاقته، وحاول أن يوقظ سوريا قبل موعد استيقاظها بنحو 10 سنوات.

إيثار عبد الحق - زمان الوصل
(244)    هل أعجبتك المقالة (251)

Nauras

2019-12-16

الزعامة مرض في عقول العرب المتخلفين. نحن لا نحتاج لزعماء في سوريا بل لأناس شرفاء وأيدي نظيفة تحترم البشر والقوانين. السيد الذي تتحدث عنه كزعيم كان شريكا في نظام مجرم ويكفي القبول بأن يكون وزيرا عند الزعيم المزور للتشكيك بنواياه وبقدرته على قيادة الناس.


أبو عادل

2019-12-16

رائع... و منصف . رحم الله عصام الزعيم وطيب ثراه..


ام عبدالله

2019-12-16

رحمه الله كان رجلا مفخرة للشعب السوري وقل نظيره.


التعليقات (3)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي