أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

حدث في باريس.. مزن مرشد*

باريس - جيتي

بعد رحلة طويلة من التشتت والبعد، عام ونيف، من عذاب انتهى للتو باجتماع أسرتي الصغيرة أخيراً هنا في باريس.
عام ونيف، أنا وابني كنا ريشة في مهب الريح، من دولة إلى أخرى بحثاً عن ملجأٍ آمن.
عندما خرجت من دمشق، توقعت أن غيبتي لن تطول وستكون العودة قريبة.
أسابيع قليلة وينتهي كل شيء وأعود.
أشهر قليلة وينتهي كل شيء وأعود.
لكن الأسابيع والأشهر امتدت حتى بدأت أعي أن الأمر ليس بالقريب.
لن ينتهي كل شيء، ولن أعود.


في يومي الأول في باريس، التقيت ابنتي، صار عمرها الآن خمس سنوات، عندما تركتها كانت ابنة ثلاث سنوات ونصف، يوم خرجت مجبرة لا خيار أمامي إلا الهروب.


في تلك الفترة، كنت خليطاً من مشاعر كثيرة، أقلها رهافة الحس تجاه أي ألم مهما صغُر، كنت مستعدة للبكاء ساعات أمام منظر قط يموء برداً، كنت مستعدةً للموت أمام طفل محروم كانت حالة عاطفية صعبة.


في باريس، تستطيع أن ترى كل سكان الأرض، كل القوميات، كل الألوان، كل الأعراق.
المبنى الذي كنا نسكنه كان نموذجاً مصغراً عن باريس الكبرى، فيه الأوروبيون، فيه الآسيويون، الأفارقة، الفرنسيون، الأتراك وبالطبع بعض العرب.
بدأت ألتقي جيراني على سلم المبنى، في المصعد، في المتجر القريب، وفي حديقة البناء عندما أنزل مع طفلتي لتلعب.
كان الود هو السمة السائدة، لكن أحد لم يسألني من أين أنا؟
قبل أن آتي ... كانوا يرون زوجي وابنتيّ وحدهم والآن اكتملت الأسرة، فكانت ابتساماتهم تشي بفرحهم لنا باجتماعنا.
هنا أيضاً الثرثرة البريئة لها مكان...


كانت الزيارة الأولى من جارتي الفرنسية، امرأةٌ متقاعدةٌ تقارب السبعين من عمرها، امرأةٌ بغاية اللطف...كان فضولها كبيراً في أن تعرف كل الحقيقة عن الحرب السورية بعيداً عن الإعلام ... سألتني عن كل شيء ... وكنت مرهفةً حتى الثمالة بكيت أمامها بحرقة وبكت بعينيها الزرقاء النقية حضنتني بمحبة واعتذرت عما حل في بلدي.


جاراتي التركيات كن أكثر معرفة بما يحصل ... قصصن علي الكثير من الحكايات التي سمعوها من أقاربهم في اسطنبول وعينتاب وأورفا ومختلف المدن التركية التي استقبلت السوريين.
كنت أجد صعوبةً في التعبير بلغتي الضعيفة، وصعوبةً أكثر بالحديث عن مأساة بلدي، وفي ذات الوقت سعيدةً باهتمامهن وحرصهن على ملازمتي لتخفيف غربتي.
ثم رأيت ناديا..أوقفتني على الدرج..بابتسامتها العذبة ووجها الصبوح ...
قالت: "السلام عليكم"
خفق قلبي فرحاً.. مضى عليّ شهر هنا ولم أسمع بعد كلمة عربية واحدة.


جارتي عربية ... سعادةٌ غمرتني ... امتلأتُ عاطفةً وحنيناً وشوق ... صرت أنزل الدرج مثل أرنب أقفز عن الدرجات الصغيرة برشاقة وخفة كما لم أكن من قبل.
يا لسعادتي ستأتي ناديا لزيارتي في المساء هي وأربع من النسوة العربيات ... من المغرب والجزائر وتونس وليبيا..
نعم عربيات، يا إلهي ما أروع هذا الصباح ، سيصبح لدي جارات صديقات يفهمنني دون تكلف وأستطيع معهن أن أتكلم كما يحلو لي، أشتاق للعربية بأي لهجة كانت.


ذهبت للسوق اشتريت البقدونس والبرغل والليمون الحامض ...- التبولة- ... أشهر السلطات السورية.
ستكون امسيةً شاميةً عربيةً منكهة...اشتريت قهوة تركية أيضاً من المتجر التركي سأغلي لهن القهوة، واشتريت السميد وقررت أن أصنع الهريسة النبكية المشهورة فقد تعلمت تحضيرها في أيام الشتات.
عدت للمنزل متحمسة، انشغلت بتحضير الضيافة، رتبت الطاولة كي لا أضطر لمغادرة ضيفاتي حينما يحضرن، وزينت صحن التبولة الكبير بأوراق الخس والنعنع وحبة الطماطم التي شكلتها كزهرة ...
أنهيت كل التحضيرات، بدلت ثيابي، مشطت شعري، وضعت قليلا من أحمر الشفاه وتعطرت...


جلست أنتظرهن، في هذه اللحظة عاد إلى صدري ذلك الحس المرهف، بدأت أتحضر لأسئلتهن عن حقيقة ما يجري في بلدي، احتبست دمعي وانتظرت.
قرع الباب، أخيراً ستبدأ أمسيتي، دخلن، قبلنني، احتضنني، كما لو أني صديقة قديمة والتقينا بعد فراق.
كلهن غاية في اللطف، قلن بأنهن أحببنني لمجرد كوني سورية، قلن بأنهن يحببنن سوريا، وأهل سوريا، وأرض سوريا، وكل شيء سوري.
زادت غصتي لم أعد قادرة على كتم دموعي أكثر، لكنني كابرت على نفسي واحتفظت بابتسامتي فلا أريد لأمسيتهن الأولى عندي أن تكون حزينة.


لكن ما خفت منه لم يطل انتظاره، استسمحتني إحداهن بسؤال، تمالكت نفسي وابتلعت دمعتي، أعرف بأنها ستسألني عن قتل الأطفال في بلدي، ستسألني عن سفاح دمشق، وعن الشهداء تحت التعذيب.


ستسألني عن المعتقلات، عن الموتى جوعاً، عن الحصار وتدمير المدن، ستسألني كيف خرجت من سوريا وكيف تركت ابنتي، كيف نجوت، وما مر بي وكيف وصلت هنا.


كنت متوقعة كل هذه الأسئلة، بل وأصبحت شبه معتادة عليها لكن حزني لم يكن قد قوي بعد، كان ما يزال غضاً، طازجاً، جرحاً نازفاً، مع أنني كنت أتوقع كل هذه الأسئلة إلا أنني لم أستطع أن أرفع عيني في عين محدثتي، بقيت واجمةً بانتظار السؤال، مطأطئة رأسي لا أريد لدمعي أن يخونني باكراً، انتظرت سؤالها برهةً كأنها دهر.
قالت: في الحقيقة ليس سؤالي وحدي أنه سؤالنا جميعا أنا وناديا وهيام ورشيدة والأخريات.
بغصة حزن وشبح ابتسامة قلت لها تفضلي.
وجاء السؤال الذي لم انتظره قط ...
قالت: رجاءٌ، رجاء، قولي لنا ما معنى كلمة "فشرت" التي جعلت أبو عصام يخرج عن طوره ويطلق سعاد.

*من كتاب "زمان الوصل"
(272)    هل أعجبتك المقالة (229)

2019-12-07

رااااااائعة.


2019-12-07

ضحكتيني والله رغم اني لا احب كتاباتك بالعادة لما تحمله من حقد هائل على طائفة كاملة.. وكان العلويين وحدهم ََ دمروا البلد.


Ali

2019-12-07

قصة تعبر عن مستوى العرب وكيف ولماذا يعيشون. انا ارى العرب في كل بلدان مشغولون بالتفاهات و لم ار حتى الآن من يحمل هم الأمة. و بالذات السوريين. التقيت بمجموعة شباب كبيرة من سورية كانوا كلهم يتفادون الحديث عن سوريا و هذا يدلك الي اين نحن ذاهبون. و ترى الشباب من الأمم الأخرى مشغولون بهموم امتهم حتى لو كانوا في القطب الجنوبي اما نحن عبث ان تجعل شخصا يشغل مخه..


رائع. جدا

2019-12-07

كل ما نشعر به نحن قيل في هذا المقال. اكملي ولا تتوقفي. عندنا. اغلب الاصدقاء. الذي تكلمتي عنهم. فعلا. انهم. يحبوننا.


2019-12-07

للاسف معك حق اخوتنا العرب ما همهم غير مسلسل باب الحارة التافه.


ابومعاذ

2019-12-10

كلامك سرد عادي كاي شخص هاجر يكتبه لا معنى ولا روح فيه....


محمد

2019-12-10

قصة رائعة وممكن تصير لوحة ببقعة ضوء أكملي الكتابة لديك اسلوب رائع اكتبي رواية وترجميها إلى كل اللغات ولتكون الرواية عن هذه القصة بمفهوم عالمي.


التعليقات (7)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي