أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

مات المترجم... وعاش طغاته*

علماني - أرشيف

رحل أهم مترجمي الاسبانية عن عالمنا تاركاً إرثه الكبير في خيلاء أجيال متعاقبة التهمت ما نقله بشغف وشوق، وتوقفت بنفس الصدمة عند مواقفه مما يحصل في عالمها القريب مشدوهة بتحولاته القاسية، وانقلابه حتى على خياراته في الترجمة وسيرته الأولى.

صالح علماني بالتأكيد لم يمرعابراً عوالم السوريين والعرب دون صدى، بل إن الرجل أسهم في تحولات الذائقة الفنية والفكرية لأجيال انتظرت بصبر خروج النسخ العربية لأمهات الكتب من بين يديه، وهو ما أجاده منذ مائة عام من العزلة لغابرييل غارسيا ماركيز وحتى آخر نتاجاته.

كانت اللحظة الفارقة في علاقة علماني مع قرائه - تحديداً في سوريا التي عاش فيها جلّ عمره- هي مواقفه الأولى الهامسة مما يحدث فيها من موت كان قريباً من سكنه في معضمية الشام وصولاً إلى مواقفه الجانحة حين اتهم الخارجين ضد النظام على أنه مرتزقة وخونة.

في جوار بيته حدثت المذبحة الأولى عند حاجز عسكري في معضمية الشام وهو ما تحدث به لأحد الأصدقاء، وفي العاصمة كان قريباً من مئات الشباب الذين كان يلتقيهم يومياً قبل خروجهم إلى المظاهرات حينما كان يمرر بعض مقالاته لصحيفة قاسيون الشيوعية.

بداية كان يختصم مع البعض منهم فهو مزاجي وحاد الطباع، ويجهر لهم بموقفه ضد الحراك الشعبي، ومن ثم عندما ذهبت سوريا إلى قدرها المسلح ذهب هو إلى أبعد من ذلك في تأييده للسلطة في قمعها، ومن ثم تأييد كل الميليشيات التي حملت السلاح تحت تسميات الممانعة وتحرير فلسطين.

هنا بدأت الهوة تتسع بين المترجم الفحل وقرائه، وهم النخبة التي تقرأ، والتي اعتقدت للحظة أن من ترجم كل هذا الكم الكبير من حكايات الطغاة والجنرالات لا يمكن أن يقف في لحظة مع من أدانهم، ودخل الرجل في خانة الكبار - الذين اختاروا السلطة وجنرالاتها – المحسوبين على أعداء الشعب وخياراته في التحرر والعيش بكرامة.

وبالرغم من كل تصريحات علماني عن الدور الخليجي في الحرب السورية، ودعم مشايخ الخليج للمتطرفين والإرهابيين في سوريا إلا أنه يهرع إلى عواصمها عند كل نداء لتسلم الجوائز المالية، والتقاط الصور وقبول التبريكات وتبادل كلمات الشكر والعرفان.

كل هذا التناقض الصارخ خلق صورة مغايرة للرجل في عقول متابعيه وحتى النقاد الذين ذهب بعضهم ليتحدث عن خيانة المترجم لأعماله، وبين من يرى في هذه المتغيرات نظرة نفعية محضة، و(أنا) مفرطة لديه في تعاليه على تطلعات الشعوب، وآخرون مقربون منه يرونها مرضاً وصل به حد الذعر.

مات المترجم وبقيت أعماله شاهدة على همة رجل وصف بأنه مكتبة بحد ذاته، وكذلك بقية مواقفه كشاهد أخلاقي على فصام حاد بين المبدع وأخلاقه، وترك خلفه أسئلة مفتوحة كغيره - ممن أخذوا نفس الموقف- عن علاقة المبدع بنتاجه وقرائه، وعلاقته بالسلطة والوطن.

*عبد الرزاق دياب - من كتاب "زمان الوصل"
(189)    هل أعجبتك المقالة (193)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي