أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

بمناسبة الكشف عن وثيقة أخفيت 9 سنوات.. عن بشار وتلغيم الثورة بالمتطرفين وبريطانيا و"جثة" السوريين

بشار شدد بالذات على إطلاق متطرفي "قاعدة الجهاد" الذين شكلوا النواة الصلبة لتنظيم البغدادي.

أمران تزامنا بلا ميعاد خلال الأيام القليلة الماضية.. مرا دون أن يثيرا كثيرا من الضجة، رغم أنهما نشرا على وسائل التواصل التي وجدت لإثارة الضجة، ولكن ذلك لم يحصل، والأنكى أن المعارضة السورية التي يفترض أن تهتم بهذين الأمرين لم تعبأ لهما.

أما الأول فوثيقة نشرها سوري مقيم في لندن، سربها إليه حزب بريطاني، تعود إلى بدايات الثورة، ولا ندري إن كان من نشر الوثيقة قد تأخر في نشرها حتى الآن، أو إن كان البريطانيون أنفسهم تعمدوا تسريبها بعد مرور 9 سنوات إلا قليلا على صدورها، ومع كون هذا تساؤلا مؤثرا فإنه يتنحى جانبا أمام تساؤلات وارتباطات أخطر.

الأمر الثاني الذي تزامن مع الأول، كان ما سرده "كاتب ومفكر علماني" يعيش في حضن النظام، بل إنه أصر على أن لايبرحه مطلقا حتى خلال سنوات الحرب المجنونة، وهو "نبيل فياض" المعروف بطروحاته المتطرفة، لاسيما فيما يخص الإسلام السني دون سواه.

أما لماذا لم تثر الوثيقة الاهتمام والضجة رغم خطورتها ودقتها في توصيف الوضع، ولماذا لم تلفت اعترافات "فياض" نظر الكثيرين على حساسيتها وما فيها من أدلة إدانة، فإن التفسير الخاص بأمر الوثيقة هو أنها تقدم بديهية بات يعرفها معظم السوريين، عن تورط النظام في إطلاق المتطرفين ودسهم في صفوف الثورة، ومن هنا فلم تأت الوثيقة بأي جديد.

وأما التفسير الحاضر لعدم الاكتراث باعترافات "فياض"، فلأن هذه الاعترافات جاءت بعيد إدراجه منشورا غوغائيا أثار قدرا هائلا من الضوضاء والجلبة، ما غطى على كل المنشورات التي سبقته أو تبعته في صفحة "المفكر".

نظريا يبدو عدم الاكتراث في كلتا الحالتين "مفهوما"، فلماذا سيباغت سوري بحقيقة يعرفها منذ سنوات، حتى وإن ظهرت أمامه وثيقة رسمية تؤكدها له، وما الذي سيلفت الانتباه إلى اعترافات حساسة نشرت في خضم الانشغال بطرح شعبوي إلغائي من العيار الثقيل.
لكن عمليا، يدلل إهمال الوثيقة المتعلقة بإطلاق سراح "الإرهابيين" منذ بداية الثورة، على وصول السوريين، وخاصة المعارضين، إلى حالة مرضية (من المرض) من اللامبالاة وتلاشي الانتباه، في وقت هم أكثر ما يكونون بحاجة للرصد والانتباه وجمع الأدلة.

ولعل هذه الحالة المزرية من اللامبالاة التي تسود صفوف السوريين، تمثل "السر" الذي يكمن في إقدام المخابرات البريطانية على تسريب هذه الوثيقة في الوقت الحاضر، لتثبت عبر بالون الاختبار هذا (الوثيقة) إن السوريين باتوا أشبه بجثة بين يدي "مغسّل" عديم الإنسانية، يديرها بعنف يمينا أو يسارا لا فرق، يصب عليها ماء محرقا أو مثلجا لا مشكلة، يعبث بها أو يسلبها عضوا لا ضير، فهي في النهاية "جثة" وهو "المؤتمن" على غسلها.

عمليا أيضا، يُبرز إهمال اعترافات "فياض" ما اتُفق على تسميته "غريزة القطيع"، التي تعد وسائل التواصل خير ممثل ومشيع لها، حيث يطفو إلى سطح التفاعل الكلام والموقف التافه، فقط لأنه صدامي واستفزازي، ويختفي الكلام والموقف المهم وكأنه لم يُدون يوما.

فماذا حملت الوثيقة التي سربتها لندن مؤخرا، وما الذي جاء في اعترافات "فياض" وما هو الرابط بينهما؟

*مستعجل
تشير الوثيقة في بدايتها إلى اجتماع "طارئ" لمكتب الأمن القومي (الأمن الوطني حاليا) برئاسة "الرفيق الأمين القطري بشار الأسد" بتاريخ 19 آذار/2011، أي بعد يوم واحد من اندلاع شرارة الثورة في درعا!.

الوثيقة التي تحمل ختم مكتب الأمن القومي وتوقيع رئيسه يومها (اللواء هشام بختيار)، توجه أمرا إلى "الرفاق" رؤساء الأجهزة المخابراتية الأربع الرئيسة (العسكرية، المخابرات العامة، الجوية، السياسية)، فضلا عن مدير إدارة القضاء العسكري، تدعوهم إلى إعداد قوائم بجميع السجناء المحتجزين على خلفية "علاقتهم مع المنظمات الإرهابية".

وحتى لايختلط الأمر على رؤساء الأجهزة المخابراتية، فإن الوثيقة تحدد هذه المنظمات بالاسم: "القاعدة، جند الشام، قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين، جماعة التوحيد والجهاد، حزب التحرير الإسلامي، الإخوان المسلمين و واجهاتهم مثل رابطة العلماء السوريين..".

وتشدد الوثيقة أكثر على أولئك المرتبطين بتنظيم "قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين، وبقية المنظمات الإرهابية في العراق"، وهؤلاء الذي نصت عليهم وثيقة مكتب الأمن القومي هم –للصدفة البحتة!- من شكلوا نواة التنظيم الأكثر تغولا والأشد تشويها للثورة السورية، أي تنظيم البغدادي.

ومع صعوبة إعداد هذه القوائم وتشعب المطلوب فيها (أسماء الموقوفين، التهم الموجهة لهم، تاريخ توقيفهم..)، يطلب مكتب الأمن القومي باعتباره المهيمن على كل أجهزة المخابرات، بأن يتم تحضير القوائم في مهلة لا تزيد عن شهر واحد، مبررا هذه العجلة بأنها تهدف لـ"تشميل عقوباتهم بمرسوم العفو الرئاسي الذي يجير الإعداد له من قبل الجهات المختصة".. وهذه حجة ساقطة شكلا ومضمونا، لأنها تزعم أن النظام المتوحش الذي كان يفتح النار منذ اللحظات الأولى على متظاهري درعا يوم 18 آذار، هو نفس النظام "الحنون" الذي أمر وفي أقل من 24 ساعة بالإعداد لمرسوم عفو (حبذا لو سأل أحدهم بشار الأسد يوما عن هذه الجزئية، ليخبرنا عن الفرق بين العجلة والتعجل، والسرعة والتسرع).

ومع هذا فالتذرع بـ"مرسوم العفو الرئاسي" يبدو ضروريا، أولا لتبرير العجلة في إعداد قوائم المتطرفين، وثانيا لأن هذه طبيعة الخطابات الرسمية التي ينبغي أن يكون فيها كل شيء معللا، وثالثا حتى لا يدعي مدع –لاسمح الله- أن النظام خطط ومنذ الساعات الأولى لتلغيم الحراك السلمي وتطعيمه بالمتشددين، وإنما كان سباقا في "العفو" ومبادرا له.

*الفرق المميت
ثم تأتي الوثيقة إلى الفقرة الأخطر والأهم والتي تشكل سابقة في كل تاريخ مخابرات الأسد، وتثبت أن بشار كان واعيا تاما لما يواجهه وسيواجهه من حراك شعبي ضخم لا طاقة له وحده بإطفاء جذوته، حيث تأمر الوثيقة بإطلاق سراح "جميع" الموقوفين في أقبية مخابرات وسجون الأسد من المنتمين لجميع أنواع "التنظيمات الإرهابية"، والذين لم تصدر بحقهم أحكام حتى تاريخ الكتاب (22 آذار 2011)، وفي موعد أقصاه 26 آذار، أي إن الكتاب أعطى فقط مهلة 4 أيام لجميع أفرع مخابراته في جميع المحافظات والمدن والبلدات لإطلاق هؤلاء، وهي مدة قياسية بكل المعايير، إذ إن وصول الكتاب من مكتب الأمن القومي إلى رئاسة إحدى الأجهزة المخابراتية المتوضعة قربه في دمشق، قد يستغرق يومين أو 3 أيام، فضلا عن الوقت اللازم لإجراءات تسجليه في "البريد الوارد" ثم تعميمه على من يلزم لتنفيذه، فما بالنا بالمدة التي يتطلبها وصول الكتاب وتنفيذه إلى فرع مخابراتي بالحسكة أو اللاذقية أو دير الزور (المهلة القصيرة للغاية،4 أيام، تسقط أيضا كل أكاذيب النظام عن وجود مسار طويل من الإجراءات يجب اتباعه، حسب القانون، قبل أن يتم الإفراج عن معتقل ما).

هنا أيضا، يبرز مدى تحرق النظام لتلغيم الثورة منذ الساعات الأولى لاندلاعها، فقد علم بالخبرة المتراكمة لديه أن الأمر ليس هبة عادية أو احتجاجا عابرا يمكن القضاء عليه بإرسال قوة عسكرية أو مخابراتية، ولهذا لم يتردد لحظة في الإقدام على "تبييض" سجونه من المتطرفين.
تترك قراءة هذه الوثيقة بتمعن جملة من الانطباعات الراسخة، التي يمكن أن ترقى لمصاف الحقائق، أولها أن ما يبدو تصرفا "طارئا" من قبل النظام تمثل في إقرار إطلاق آلاف وربما عشرات آلاف المتطرفين بعد 24 ساعة من اندلاع الثورة أو أقل، هو في حقيقته ليس إجراء عاجلا ولا وليد ساعته، بل هو سياسية ممنهجة ومدروسة تم الالتزام بها طوال عقود، من استقبال ورعاية وحضانة و"تفريخ" المتشددين في سجون النظام (بحجة اعتقالهم)، ثم إطلاقهم جماعات أو أفرادا، عندما تحين الحاجة لهم لتنفيذ عملية ما.

وقد مارس النظام هذه المهمة باقتدار وبشهادة اللواء المخابراتي "علي مملوك" الذي تفاخر بذلك أمام وفد أمريكي ذات يوم.

لقد كان نظام الأسد يطلق في كل مرة عددا محدودا "يتناسب" مع حجم المهمة التي يخطط لها (مثالا اغتيال الحريري وإطلاق أبو عدس).. حتى عندما أطلق وتغاضى عن مجموعات من المتشددين للذهاب إلى العراق، في سبيل أن يناكف النظام الأمريكيين عله يحصل بعض الصفقات منهم.. حتى في هذه الحالة وعلى خطورة الملف العراقي، كان العدد "محدودا"، ولم يجرؤ النظام بل لم يفكر بإطلاق كل ما لديه من "مخزون" بل أبقى القسم الأعظم منه في قبضته إلى وقت الحاجة.

وعندما اندلعت أولى شرارات الثورة، أدرك النظام –وباعتراف هذه الوثيقة- أنه أمام حدث استثنائي يجب أن "يحشد" كل "طاقته" ويطلق من أجل مجابهته كل "مخزونه"، وهكذا كان، وهذا دليل إضافي وموثق على إقرار النظام بوجود ثورة عارمة (أنكرها ظاهريا)، ولو كانت احتجاجا عاديا أو هبة محدودة جغرافيا لما تأخر في "مداواتها" بطرقه الاعتيادية، وهو الخبير بذلك (أحداث حماة وحلب وجسر الشغور في الثمانينات، انتفاضة الأكراد 2004).

لقد لمس السوريون كثيرا من الحقائق التي كشفها النظام بنفسه عن نفسه في هذه الوثيقة، ولكن بعد دفعوا فاتورة قتل وخراب فظيعين، أما "المجتمع الدولي" فقد كانت أجهزته السرية على إطلاع بالأمر منذ البداية، ولكنها فضلت –بل أصرت- أن يدفع السوريون الفاتورة.. وهذا هو الفرق الجوهري والمميت، بين من لا يدرك ما يخطط له حتى يصل إلى الرمق الأخير، وبين من يعرف المخطط منذ اللحظات الأولى لكنه يحتفظ به حتى يرى المستهدف قد شارف على الهلاك وصار بمثابة جثة يفعل بها "المغسل" كما يشاء.. ألم تُطبق اتقافية "سايكس بيكو" بحذافيرها وتجرعت شعوب المنطقة سمها، حتى بعد الكشف عنها ونشر كل بنودها ودسائسها على الملأ؟! (للمفارقة حتى في سايكس بيكو كان هناك "جثة" وهي جثة الرجل المريض المتمثل بالدولة العثمانية وما كان تحت ولايتها من دول وشعوب).

هذا بخصوص وثيقة الأمن القومي وتلغيم بشار الأسد للثورة بالمتطرفين منذ الساعات الأولى، أما عن اعترافات "نبيل فياض" وعلاقتها بالوثيقة، فلنا عودة في جزء آخر.

إيثار عبد الحق-زمان الوصل-خاص
(239)    هل أعجبتك المقالة (257)

البراء شحادة

2020-09-03

اين الحقوقيين الذين يدعون الثورة والدفاع عن حقوقها لتقديم هذه الوثيقة لمحكمة الجنايات الدولية.


التعليقات (1)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي