وحيدا يتوجه "أبو بشير" بداية كل شهر، مقدما طلب الموافقة للجهات المعنية في باريس، بغية الترخيص لمظاهرة مناهضة لنظام الأسد، توافق السلطات ويبدأ الإعداد: إعلان عبر غرف التواصل "فيسبوك" و"واتس أب" ثم بعض التجهيزات اللوجستية، أعلام، مكبر صوت ، كلمات، صور الضحايا بحجم كبير للفت انتباه الشارع الفرنسي.
ساعة التجمع مخيبة للآمال، عشرات وربما أقل، يتكرر المشهد في أكثر من مناسبة، وتجمع، ومدينة أوروبية، يتساءل الرجل المبعد عن سوريا منذ نهاية الستينيات، بلغة الإشارات والتعجب، تقترب ساعة الموعد المحدد، يتطلع يمنة ويسرة غربا وشرقا، يؤخر البدء لوقت إضافي، لا أحد قادما يحمل علمه الأخضر، يصرخ "أبو بشير" أين أنتم على وقع أغاني الثورة السورية؟ مرددا جملته أمام الحضور "لن نستسلم".
الصحفي واليوتيبر "مشعل العدوي" يصرخ: "لماذا لا تخرجوا إلى الساحات لا نطلب منكم البقاء فيها -الساحات- ولا أن تعتزلوا حياتكم ومستقبلكم ساعة واحدة في الأسبوع تكفي لنسمع صوت ثورتنا للعالم ونطالب بمعتقلينا وحريتنا".
في حلقة أخرى حدد بوصلة السؤال أكثر على أبناء حوران في المملكة المتحدة واصفا إياهم بعشرات الآلاف يصرخ "العدوي" مجددا: "لا تنسوا أنكم وصلتم هنا بفضل تضحيات إخوتكم، فلا تنسوهم، وإلا فلن تعودوا يوما لسوريا"؟
ليس ثمة أرقام رسمية توصف أعداد السوريين وتجمعاتهم بهذه العاصمة أم تلك، فقد يكون للأعداد قليلة مبرراتها أمام قدرة المدن الكبيرة على ابتلاع القادمين الجدد، لكن قتامة الصورة، أيضا قادمة من عواصم أخرى كبرلين ولندن وواشنطن وحتى اسطنبول وغازي عنتاب في تركيا.
*الصحافة بعين العاصفة
خلال تقصي الأسباب، كان محدثي جادا، بأن الإجابة لدي، لقناعته أنه لا يكفي للصحفي السوري أن يراقب الساحات وينقل فراغها، بل الأولوية حضوره أولا، وباللحظة حشودها، يعد تقريره، معيدا السؤال لي، كم صحفي سوري بفرنسا وكم منهم يحضر في الساحات؟.
نقلت سؤاله لزميلي "محمد الحمادي" لصعوبة الإجابة وحتى لا تغدو في سياق الشخصانية، فرد :"جميعنا مقصرون لكن أعتقد أن تأطير المسؤوليات وجدولتها أولوية، قبل سؤال الفئات، باعتبار أي مشهد جمعي سيستقطب الصحفي ووسيلته الإعلامية، ويفرض خياره الوحيد، أما لماذا نغيب فليس دوما، شأننا كبقية مكونات الشارع السوري في فرنسا، نفقد الأمل أحيانا، ثم نعاود المسير، نغيب بحكم عدم اعتيادنا على المواظبة الطويلة في الساحات، نبرر تقصيرنا بالعمل على مسارات أخرى في الثورة السورية".
ليس ثمة إحصاءات، تقيس تواجد السوريين، في هذه العاصمة أو تلك المدينة الأوروبية، ولا معايرة لظروف جامعة للغالبية، ولا قراءة تحيليلة للراغبين في المشاركة، ولا نوعية المشكلات التي تعيق مشاركتهم، كلها عوامل تساعد في قبول الاعتذار.

يضيف الحمادي:"الإحصاءات مهمتها إعطاء مؤشرات رقمية صحيحة، من العدد الإجمالي، وإبراز المشاركة، في القضايا العامة الواجبة على الجميع، بعيد توفير الظروف المناسبة، وحينها يمكن الحكم، وقبول التهم أو رفضها، فهل يصح لوم طلبة سوريا، في جامعات فرنسا، ولا نعرف عددهم وانتماءاتهم ومواقفهم وظروف استمرارهم في الجامعات المتباعدة جغرافيا، وتصل لمئات الكيلومترات، مع قرينتها بحالة الطلبة بجامعات دمشق وحلب وحمص والسويداء، صحيح أن مناخ الحريات بفرنسا مفتوح أمامهم، ومغلق هناك، لكن الصحيح، أيضا أن العشرات في جامعة "سوربون" الفرنسية، لن يكون بمقدورهم، تنظيم أية فعالية، تستقطب أقرانهم، وتحدث التأثير المطلوب، لأن العشرات، لا يعول عليهم أصلا في القضايا المفصلية والتحولات، ناهيك عن المعوقات العديدة، التي تعترضهم بحال توحدت الرغبات والنوايا، وهي أيضا بالغة الصعوبة".
أعرف صحفيين وكتابا لم يشاركوا بمظاهرات السوريين بأوروبا، لكن جذوة الثورة تشتعل بوجودهم، حيثما كتبوا وحضروا وفضحوا نظام الإجرام، واعرف طلبة مهجرين من سوريا، تفوقوا على أقرانهم الأوروبيين، ويقدمون خدماتهم لكل سوري يسأل عن النجاح، واعرف أرباب عمل يفضلون خلق فرصة عمل لسوري مثلهم، وأعرف سيدات سوريات يواجهن بتحد يليق بهويتهن، يقفن بمواجهة التفتت والتشرذم الذي بات يضرب العائلات، ويحفظن بيوتهن وأولادهن وأزواجهن، ويساهمن بلمسة شفاء في وطنهن الجريح، ويعرف الجميع أن الجرح السوري والمتقيح منذ عقود، أصاب الجميع بمن فيهم كبار السن، ممن لا تعنيهم صفحاتنا الزرقاء وما تعج به، لكنهم لا يألون جهدا لحضور مؤتمر أو تصحيح واقعة أو مكاشفة أو ندوة تحيط بالوجع السوري، فهل نقيس المشاركة بواقع الصفحات الزرقاء و"نشطب" قيودهم، يتساءل الصحفي محمد الحمادي؟.
*دعوة لتصحيح المسار
الباحث والسياسي "أحمد خطاب"، قرأ المشهد بعودة زمنية، باعتباره من الجيل المبعد منذ عقود: "تاريخ الحضور السوري بفرنسا لم يكن سهلا فأول احتجاجاتنا إبان الثمانينيات، اعتدت علينا المخابرات السورية وجماعة رفعت بفرنسا، لندخل بعدها بسبات، ثم هبت رياح التغيير مع انهيار الدول الشيوعية، على أمل وصول الديمقراطية لسوريا، فضاع الحلم، ثم تجددت مع الحراك المدني مطلع الألفين بسوريا، ثم أصبنا مجددا بعمق بحجم التحولات الإقليمية من احتلال العراق، ثم مقتل الحريري".
وحول رؤاه بغياب التفاعل في الساحات الأوروبية، رأى خطاب: "ثمة خلاصات، يمكن مصارحة أنفسنا والناس بها، خصوصا بعد الثورة السورية، تتمثل بأن العمل الوطني السوري، عموما غير منظم وفجائي وموسمي، رغم وجود النخب منذ عقود في الغرب، إضافة إلى أن العقل السوري كان حاضرا بفرديته ويجب اليوم الإيمان بعمل الفريق، وهذا يفهم من تراكم عقود ممنهجة لتفرد سلطة الأسد، كما أن العقل الحزبي لعب دورا في فرقة الساحات، فإن حضر الإسلامي غاب الديمقراطي أو الشيوعي".
ويضيف خطاب:"إن غياب الدعم العربي والغربي لعب دورا واضحا، مقارنة مع مظاهرات الإيرانيين، حيث تجمعاتهم تبهر ويتجمعوا من كل دول العالم، فقدر السوريين أن ثلاثة أرباع العالم ضد ثورتهم، خوفا من تأثيرها كحامل للتغيير في عموم الشرق".
ويدعو خطاب "لمراجعة شاملة من الأفراد، على قاعدة العمل الجيد يقنع الآخرين، وصولا للقوى الحزبية، ووجوب تأجيل التباينات إلى ما بعد الحرية، وضرورة العمل من قبل السوريين على تأسيس نقابات ومنظمات مهنية، مبنية على فكر وممارسة ديمقراطية، لتوظيف قدرات السوريين مستقبلا والاستفادة منها في تحشيد الرأي العام الغربي ضد نظام الأسد، والسعي لتأمين الغطاء المعنوي والمادي الوطني كمساهم في عملية الاستقطاب وديمومتها".

ربما لعبت وسائل التواصل الاجتماعي لعبتها في الحالة السورية، فبعضهم يرى أن الدعوات الجماعية" البيانات على "فيسبوك" التي تضم النخب الفكرية والسياسية وتدعو للتضامن والمطالبة وسيلة بديلة عن الساحات ودورها، وقد تأتي ثمارها بعكس الساحات التي استنفذت فرصتها مرددا العرف "لو بدها تشتي كانت غيمت".
وبين صفحات التواصل وبياناتها وبين الساحات وفقرها يذهب رفيق ثالث إلى المشهد الدولي برمته، ملوحا بأن أي تحول جديد في المشهد السياسي الدولي بشأن سوريا، كفيل بعودة الساحات الى مسارها السابق، لكن ساحات فقيرة وحتى كبيرة لم توقف الحرب على بغداد فكيف توقف الحرب في سوريا وتعطي السوريين حريتهم.
محمد العويد - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية