لازلت أذكر الشاعر الكبير نزار قباني في بيتنا، و هو يتحدث عن بيروت مثلما يتحدث العاشق عن عشيقته..
كان يكرر، هي عشقي و هي ألمي، فأنا لا أشعر بحريتي مثلما أشعر في بيروت وفي نفس الوقت، فيها قتلوا حبيبتي..
أتذكر الآن شاعر الشام الكبير و انا أشاهد "ثورة أكتوبر اللبنانية" و هي تنبت ربيع العشق، فهي ثورة الشباب الذي لا يعرف عشقاً إلا عشق البلاد، ولا علماً إلا علم البلاد، و لا يقبل طريقاً يؤدي لاختلاف طائفي أو عنصري، و في نفس الوقت نشهد ذاك المحرك الذي يعمل بأقصى طاقته ليئد الثورة .. و لازال أبناء جيلي كلهم يذكرون صوت محمود درويش الرخيم و هو يقول: بيروت تفاحة و حصارنا واحة .. ، في البدء لم نخلق في البدء كان القول و الآن في الخندق ظهرت سمات الحمل.
لطالما كان لبنان مميزاً بثقافته و حريته و عشقه للكلمة ! و لطالما هرب إليه كل مخبىء للكلام في عب قلبه، حتى لا يكشفه عسس الخرس !
فهل هي العودة إلى كامل الحرية يا لبنان ..؟
هاهم أهل طرابلس يدهسون بأقدامهم منذ أيام على الطائفية، و قد شاهدنا جميعاً كيف يمسك إبن التبانة و إبن جبل محسن ، يداً بيد ضد الطبقة السياسية الحاكمة ، لقد كان هذا ربيعاً حقيقياً. و لكن ها هي قوى الماضي و قوى الإقطاع السياسي تحاول بأسنانها وأظافرها استعادة كل أدران السياسة و دفعها إلى سدة المسرح.
فإلى أين يا لبنان ؟ كلنا لا يعرف الإجابة المطلقة عن هذا السؤال، و لكن تعالوا نحاول رسم مقدمات المشهد . فلقد بدأ الحراك عفوياً و رائعاً برغم كل التخوينات التعسة ، و لقد خرج الجيل الشاب و قد عزم على تغيير الحال الذي قض مضجعه بغياب العدل و سرقة ماله و مستقبله ، لكن الواضح أن ما ينقص الحراك في لبنان هو القيادة ، القيادة الواعية ، المتكاملة مع مطالب الشارع لأجل دولة علمانية لا طائفية، هذه القيادة التي تمتلك القدرة على تحريك الشارع ، و الطلب إليه عند اللزوم أن يأخذ استراحة محارب لعدة أيام ! . نعم هو ذا فلابد من أن ندرك مخاطر حركة الجمهور دون رأس فهي مهما كانت تشبه عشتاروت بجمالها – لأننا نحبها – إلا أنها محكومة بالفوضى و الخطر بدون رأس و قيادة ، و هذا رهن بمقدرة الشباب اللبنانيين على تخليق تلك القيادة من أولئك الشباب و الشابات، المتمتعين بالنقاء و الموهبة و العقل القادر على مخاطبة الناس كما ينبغي، و الجلوس إلى الطاولة مع المنافسين لكي تجد أفضل الأساليب لإنزال كل ( جمل ) صعد على الشجرة ! ..
فالتاريخ يقول بأن الثورات إن لم تجد قيادة مقارعة و مفاوضة من اجل إنزال الجمال من على الأشجار، سيكون الكل أمام مشهد دموي خطير، ولنا ليس فقط في منطقتنا حكمة، بل في الثورة الفرنسية و الروسية أبلغ الدلالات.
بالتوازي مع ضرورات القيادة، على الشباب و الصبايا في ساحات بيروت و طرابلس و صيدا و صور و النبطية و كل مكان، أن لا يسمحوا لأحد بالركوب على حراكهم الجميل، لا إن كان من قوى الداخل و لا من قوى الخارج.
بالعموم يبدو بأنه و على عكس كل أعداء الحراك اللبناني الذين يعدونه بالثبور و عظيم الأمور، يبدو بأن الحراك سيحقق نتائج مهمة على صعيد تغيير البنية الحقوقية للكيان اللبناني أولاً و هذا ما نراهن على أنه سيحصل حتى و لو تأخر قليلاً .. نقول هذا لأن اللحظة التاريخية بالأصل ناضجة أمام اللبنانيين، فلقد جربوا كلما مرضوا كل مكونات (الصيدلية السياسية الطائفية اللبنانية) التي أنشئت على مرحلتين، مرحلة إنشاء دولة لبنان الكبير ( الميثاق) والمرحلة التالية و هي اتفاق الطائف، و برغم كون هذا الأخير – اتفاق الطائف – قد بات هدفاً للهجاء و النقد، إلا أنه ينص صراحة على إلغاء الطائفية السياسية، و بالتالي فإن المشروع الفكري للقضاء على المحاصصة لم يولد اليوم و هو ليس قناعة آنية لدى الجيل الشاب بل هو منطق عقلاني قديم نتج عن حرب أهلية طاحنة، و لكن فعل النظام السوري الذي بقي طويلاً في لبنان حتى عام 2005م، ثم مصالح الإقطاع السياسي وقفتا ضد هذه الضرورة الحياتية، فصار لبنان أباً يخلف الأولاد و البنات و يرسلهم للعيش بعيداً عنه في دول المنافي ، حيث لا أمل في هذا الوطن ( الجميل ) أمام الأبناء إلا في السفر، ما خلا أبناء الطبقة السياسية الحاكمة وأصحاب النفوذ و الفلوس.
خلال اليومين الفائتين شاهدنا وجوهاً إعلامية لطالما تبجحت بالموقف الوطني و النضالي تنصح المسيحيين بأن لبنان اللاطائفي سيعني أن حصتهم من الكعكعة لاشيء !! و هو نفسه لطالما هجا لبنان و طبقته السياسية الفاسدة و المذهبية ، و هو يظهر الآن بمظهر الرجعي التعيس الذي ينفث طائفية و غباء ، و عليه أن يعلم – هو و غيره – أن ثوار لبنان لم يعودوا يقيسونها كحصص دينية بل كحصص وطنية و صارت المهنية و القدرة و النقاء هي المعايير الواعية في اختيار الكفاءات لا المحاصصة التعسة.
كم اشتهي أن يعود كل الشعراء الذين عشقوا بيروت ليشهدوا كيف تزينت صباياها على الرصيف و كيف غنى الكل في صوت شجي واحد: أناديكم أشد على أياديكم و أبوس الأرض تحت نعالكم و أقول أفديكم.
لقد قال مفكر عربي كبير يوماً: إن لبنان هو مطبخ الفكر العربي الأول، فهناك تصنع خميرة التغيير الحقيقية، وإذا كانت نضالات الشارع العربي، قد ارتكبت أخطاء كبرى هنا و هناك فإن الفرصة متاحة أمام اللبناني بأن يتعلم من جيرانه و من أخطائهم، و من ثم رد الدرس إليهم لكي يمشوا بالاتجاه الصحيح .
*أستاذ جامعي سوري
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية