أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

عزف منفرد على طنجرة الوطن.. عبد الرزاق دياب*

أرشيف

"بتصدق يا ريت الانتحار حلال" جملة مباغتة قالها لي أحد المعارف في دمشق أثناء حديث عابر عن الأحوال والأوضاع الصعبة التي باتت تحاصر الناس هناك، وجعلت من حياتهم مطاردة دائمة بين الفقر والخوف مما هو قادم. آخرون باتوا يفرون من البلاد ليس خشية من رصاصة طائشة، أو اعتقال لتشابه الأسماء، أو دعوة مفاجئة للاحتياط، ولكن بحثاً عن مصدر رزق يبقيهم على قيد الحياة بعد أن ضاقت بهم سبل العيش، وباتوا غير قادرين على إطعام أبنائهم، وتعليمهم، وحتى حمايتهم من الشارع الذي قد يأخذهم إلى المخدرات، أو في حضن عصابات الخطف والقتل.

يتابع محدّثي استغرابه من بعض السوريين الذين يتحدثون عن رغبتهم بالعودة إلى سوريا، ويعيد إلى ذلك إلى الحنين والشوق الذي لا يطعم خبزاً، وأنهم ما زالوا يعتقدون أنها نفس البلاد التي هربوا منها، وأنها ما زالت على حالها، وربما تخدعهم الصور والفيديوهات القادمة من دمشق الممطرة مع صوت فيروز، وصور المحلات العامرة بالزبائن.

يحسد الرجل من استطاع الخروج، وإنه يجب على من يجد طريقة لذلك أن (لا يقصر)، وأن همّ أغلب الشباب ومعيلي الأسر الآن هو الوصول إلى بلاد تضمن الأمان الاقتصادي لهم، وأنهم يريدون حياة لا يستيقظون في صباحها على أسعار جديدة، وارتفاع جديد للدولار، وتاجر محتكر، وجريمة مروعة، وقصص اغتصاب، ودعارة متفشية، ومسؤولين لا يرون فيهم سوى قطعان يهشونها بعصا الوطن والقائد الفذ.

في الأيام الأخيرة قفز سعر كيلو اللحم البلدي إلى عشرة آلاف ليرة، وكيلو اللبنة إلى 1500 ليرة، ومثلها (عيشة خانم)، والبندورة الخيار إلى ما يقارب 500 ليرة للكيلو، وهذا عدا عن فقدان اسطوانات الغاز، وانتظار دور الـ 100 لتر من المازوت على أبواب الشتاء، وهذا جزء يسير من ويلات الفقر الذي بات يشق طريقه إلى معظم بيوت السوريين.

في مقابل شكوى السوري في بلاده المهشمة هناك من يعيش معاناة وأوجاعا مختلفة، والسوري في الشتات ما زال يحمل حنينه الذي توقف عند لحظة الهروب، وفوق الحنين شظف الحياة الجديدة، ومحاولات الاندماج في العوالم التي لا تشبهه، وخوفه من خسارة أبنائه إلى الأبد لصالح أوطانهم المضيفة. السوري في الشتات يعاني أيضاً من الفقر والعنصرية حتى في بلاد الجيران والأشقاء، ويتنازعه الخوف من فقدان آمال العودة إلى بيته الذي هجره عنوة أو خشية على أرواح صغاره، وأن يبقى منفياً إلى الأبد فتجارب من سبقوه تدل على ذلك.

في محاولة فاشلة للبحث عن حل لحوارنا المقيت قلتُ مازحاً لمحدثي: دقوا على الطناجر، وهاهي أصواتها تصلكم قريبة في جارتنا بيروت، وربما آن الأوان لتجديد روح الثورة من أجل لقمة العيش على الأقل..وضع (سمايل) حزين، واختفى الضوء الأخضر..عزف منفرد وحزين حتى على طنجرة الوطن.

*من كتاب "زمان الوصل"
(173)    هل أعجبتك المقالة (210)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي