كانت المصادفة المحضة أن أكون بجنيف القريبة من موطن لجوئي بفرنسا، لم أعرف المدينة السويسرية إلا بالدستورية، كما لم ألتقِ بالشخصيات الممثلة مسبقا، ربما لأكون شاهدا على عمق المأساة السورية وربما استمرارها حتى وقت قريب.
ترافق وانعقادها (الدستورية) مع سخط مجتمعي انهالت خلاله الحملات على صفحات التواصل، وكنت أخشى القول رغم مهنتي كصحفي، "إني أقدم خدمة المعلومة وأسأل عنها، من إدارتي والجمهور على حد سواء".
ورغم ذلك فليس من شفاعة بين الناس، كنت من داعين وفد الدستورية، لإطلالات مباشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ليوضحوا ويشرحوا ما هم بصدده، والخيارات المتاحة، والرد على حملات، أو آراء قد تقنع جمهور الثورة بأن "ما يحدث خيانة"، لأكتشف حاجتهم لكثير من الوقت والتحضير والصبر وضبط الأعصاب فهم وبرعاية دولية استطاعوا جلب القاتل لساحة صراع فكري، قد يودي بمستقبله ويحاسبه عن ماضيه، وتابعت عن قرب سلوك التوحش المنلفت من وفد نظام الأسد، رغبة بالتعطيل، وقولا كررته كلمات بعضا من وفده "عليكم قبول شروط المهزوم".
*شائعات مالية
في الشائعات المالية التي رافقت انعقاد اللجنة، حديث عن رواتب بآلاف الدولارات للأعضاء، التقيت وبحثت وسجلت انطباعاتي في زوايا قصر المؤتمرات، حيث الوجبات البسيطة في أدنى حدود كلفها المالية، كما عطلت التدفئة بكثير من الصالات لتوفير النفقات، ومنها توقيف المصاعد (الأسنسورات) شعرت مرة، أنها ربما أحد أدوات الدفع لإحداث تقارب ما بين الوفدين، لكن ذات المشهد تكرر خلال إقامتي بذات الفندق للمعارضة.
كل الأجوبة المتقاطعة التي حصلت عليها تطابقت بأن أجرة المشارك من كلا الوفدين لا تتجاوز 76 دولار عن كل يوم عمل، ولا يحتسب للغائبين من أعضاء الموسعة، ما يحتسب للمصغرة، فالأولى أنهت أعمالها والثانية مستمرة لبعض الأيام، سألت محدثتي الأممية، هل صحيح يتقاضى كل عضو ٥ آلاف دولار، فضحكت وقالت "دبر لي شغل معهم"، أما أحاديث هيئة التفاوض المعارضة، فتطابقت أرقام من سألتهم على (1500) دولار شهريا.
أما الوفد الإعلامي الداعم للدستورية من المعارضة -وكنت ضمن الفريق- فتم على قاعدة "للثورة ولأجلها" مقارنة مع المهمات الخارجية لأعضاء الوفد الإعلامي للنظام.
سيألف المجتمعون أجواء "جنيف" ويتكيفون مع أماكنها خصوصا الفنادق، وزيارة شوارعها الرئيسية في يوم العطلة، مدينة محبة للسلام، لكنها ربما تبكي إن ضيعت فرصة السلام للسوريين، مدينة عمق الرأسمال المنهوب، ستدفع وتغري ناهبي المال السوري، سابقا ولاحقا لمتعة التسوق و"البارفانات" الباريسية.
وحدهم فقراء الدستورية، سيمرون بالمراكز التجارية ويلتقطون الصور أمام واجهاتها الزجاجية. كانت حواسي ترصد أوضاع وفد المعارضة، كانت الضرورة هي معيارهم اليومي، ليس بينهم رجال مال وشركات، كنت أراقب سحنتهم المتعبة من سنوات اللجوء المرهقة، وعودتهم بنهايتها إلى مدن اللجوء. بين حوار هنا وهناك.
روى لي الفنان "جمال سليمان" قصة تتلخص أنهم بأحد المؤتمرات كانت التغطية تشمل الإقامة ووجبة الإفطار، فتنادوا للغداء خارجا، وكل يوم يدفع أحدهم، وبتكرار غياب مشارك بشكل يومي، تبين أنه تمنع عن المشاركة، تجنبا لدفع فاتورة لا قدرة له عليها.
*أكشاك الإعلام لا تصنع رأيا عاما
الجهة الراعية أو المنظمة وفرت الإقامة، بفندق نجمتين أو ثلاث، للإعلاميين الذين قدموا لتغطية المؤتمر -السوريين تحديدا- وعلمت من بعض زملاء المهنة، أن مؤسسته ستدفع قيمة التقرير التلفزيوني جاهزا (100) دولار، أما المباشر "سكايب وعاجل" فعلى ذات القواعد المشتركة "للثورة ولأجلها"، وبعض المحطات تشاركت مصورا و"مونتيرا" واحدا، لتوفير بعض المال فخرجت الصور واللقاءات ذاتها وإن اختلف "اللغو" التلفزيوني.
كان الإعلام جزءا من حالة الإحباط التي تحاصر الجميع، كل طرف يسرب لفريقه، ويجيب وهو في القاعة المغلقة، حيث ضجيج المشاحنات، ورفع البطاقات البيضاء، كتعبير عن نقطة نظام أو اعتراض وما أكثرها، ومن الدقيقة الأولى دخل الإعلام والإعلام المضاد، لا ليعزز نوايا السلام بقدر اختياره للرهان على جودة خدمته ويرفع العاجل، ويتبنى وجهة دون الأخرى، فعزز الانقسام والتشتت وأضاع أولوية فرصته، أن يكون سوريا، كان يكفي خبر تعطيل جلسة أو شتيمة أولوية على خبر استئناف العمل والجلسات، وبدا الإعلام بغالبيته، حريصا على قواعد الصحافة بزمن الاستقرار "إذا عض الكلب إنسانا ليس خبر، والعكس هو المانشيت"، فباتت المانشيتات لعبة خطرة في زمن الموت السوري، وربما هو ما أثار لاحقا حفيظة الراعي الأممي "غير بيدرسون" فاعترض ووجه بحسب مصادر على تغطية وكالة "سانا" التابعة للنظام.
التغطية الإعلامية كانت متعجلة رحلت الكاميرات وأسيادها، بعد انقضاء الموسعة، وكشفت في كثير من حضورها عمق مأساة "الأكشاك الإعلامية" حيث لا تغطي صحفيا ولا تقوى على الاستمرار بأعلى مدينة بالعالم لأيام أخر، فيزيد تشتت الرأي العام السوري ويزيد انقسامه عمقا، فيما بقي إعلام النظام متابعا حتى اليوم.
*هوامش
فنادق المدينة تعج "بالسهر"، وحدهم السوريون حملوا أوجاعهم، وتسمع همسات النقاش "الفجائعي" فلا يكترث السكان الصاخبون "لجراح ضيوفهم" بعضهم كثر لم يعرفوا المدينة الأجمل إلا ليمهدوا للسلام "الملغوم" دوليا وإقليميا وهو ما يفسر "الجفاء" بينهم حتى وإن شاء "بيدرسون" بحنكته الطويلة.
في سياق الردود على ما قيل عن توسط وفد النظام لأعضاء من وفد الدستورية المعارضة، وبمطالب شخصية، وهو ما أورده رجل الأعمال "فراس طلاس" بدا مفاجئا رفض أعضاء الوفد التعليق رغم تكراري للسؤال، أحدهم رد بالقول ليس للنشر "راقبنا، واكتب ضميرك".
كررت ذات السؤال بزوايا مختلفة، فالمهم الحفاظ على رأي عام متوافق على قضايا الاستحقاق، ولا يضيع في تفاصيل يمكن تأجيلها، قلت لضيفي فرد: "لا طلبات شخصية لأعضاء الدستورية من وفد النظام، ولم يلتقوا أصلا ببعض، ما جرى أن وفدي المجتمع المدني من الطرفين، كانوا أكثر تقاربا مع بعضهم البعض وبالتالي جرى تقديم عروض من "ميس كريدي" عضو وفد المجتمع المدني، للراغبين في العودة لدمشق كنوع من اختراق اللجنة، بنية مقصودة أو عفوية، وقد يكون البعض لديه ابن أو قريب معتقل، فطلب الوساطة للإفراج عنه أما ما روج عن مطالب شخصية فالنفي سيد الموقف، وليس لدينا جهاز استخباراتي كنظام الأسد لنعرف، وقد تكون مقصودة من وفد النظام لزيادة التشكيك بوفد المعارضة".
*من ينقذ السوريين؟
تبدو الأمور من زاوية قراءتي، بحاجة لتدخل، خارج "جنيف" في الجبهات المشتعلة، شمال سوريا وجنوبها، وتحقيق تقدم في توافق ينهي الموت المفتوح، لتسير أعمال الدستورية بجنيف وفق النوايا المعلنة، ففي كل تعريف لوفد النظام تعاد كلمة "المدعوم من الحكومة"، مثيرة معها تكهنات ومخاوف اعتمادها وتكرارها حتى من رأس النظام.
فيما تعريف الآخر الشريك بالجلسات والمناقشات والآمال "وفد المعارضات" وفي كل لقاء صحفي يمكن أن تعرف صفة الصحفي بنوعية الأسئلة الموجهة بكثير من التصغير والتحقيق والتشكيك.
دوامة التشكيك فرضت أجندتها من خارج جلسات الدستورية، وبدت ضاغطة على جميع المشاركين معارضة ومدني ونظام، كل طرف يريد إرضاء مجموعته الشعبية وقواعده، وباتت حلقات البث المباشر اليومي للجمهور أولوية على منجزات الدستورية، ولم يعطِ الإعلام ما يكفي لتطمينات، إنه ينتظر "القنبلة".
يقول أحد المتابعين "كلنا نتفهم حجم المصاب وعمقه، لكننا أمام مشهد غير مسبوق في أي مجتمع، الكل ينشط سياسيا، نغلق الأبواب لنصل لقرار وعيننا على شوارعنا في تركيا ولبنان والأردن وأوروبا والخليج وسوريا، لا يمكن لقرار أن يقبله الجميع، فالتمثيل النسبي وجد ليعبر عن هذا الشارع أو ذاك، نحن نوازن بين رغبات شوارع "لقارة السورية، شعبيا، وسياسيا، وقرارات أممية، وإقليمية".
سألت محدثي، لكن الشارع لم ينتخبكم؟ فأجاب: "نحن نعمل لنحقق لهم انتخابات شفافة ونزيهة ومراقبة، أين يمكن الانتخاب الآن لنحصل على تمثيل صحيح، في مخيمات اللجوء أم في الدول التي جندت مواقف السوريين للاصطفاف مع سياستها وليس مع سوريا، المهم أن الجميع ممثل بنسبة ما فهل الأحزاب وشارعها يرفضون ممثليهم أم أبناء هذه المحافظة أو تلك يشككون بتمثيلهم، إن كان يمكن التمثيل وإعادة بوصلته بشكل منطقي نحن نرحب".
ودّعت جنيف يائسا إلا من إصرار السوري على فتح طاقة أمل، قد لا تؤتي ثمارها في القريب العاجل، وعلى حنكة "بيدرسون" ممسكا بخيوط اللعبة جيدا، مستندا بتكليف أممي وعلنية اللاعبين الدوليين والإقليميين بضرورة نجاح العملية، بدليل أن الجلسات مستمرة رغم كل ما سبق.
كذب الشائعات المالية المرافقة للدستورية.. وانطباعات أسبوعها الأول

محمد العويد - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية