في حديقة خلفية ملحقة بكرفانته في مخيم "الزعتري" - شمال الأردن- يجلس "أبو نادر الحراكي" على كرسيه القش الصغير، وهو يتأمل صناديق التنك المتجاورة والشِباك التي يحجز بها طيوره المتنوعة، متذكراً تلك الأيام التي كان يمارس فيها هوايته المحببة بكل ما فيها من مناكفات وقصص وطرائف يحفل بها عالم "الحميماتية".
ويتذكر محدثنا، وهو يتأمل حماماته مختلفة الأشكال والأنواع جوانب من هوايته الطريفة هذه وحنينه للماضي الذي لم يبق منه إلا صناديق فارغة وقليل من الطعام الذي كان يقدمه لطيوره المدللة، وبعض الزينة التي كانت "تشنشل" هذه الطيور، فتظهرها في أجمل حلة وإبريق الشاي المعتق الذي لم يكن يغادر الجلسة، ويُرجع البعض هذه الهواية إلى بداية معرفة الإنسان للحمام، معيدين نشأتها إلى أيام الطوفان بعد أن اكتشفت الشعوب مواهب الحمام في نقل البريد الجوي، وحّدت ظروف الحرب في سوريا من ممارسة هذه الهواية بسبب عدم توفر الأمان والقصف والتحليق المستمر للطيران الحربي، إذ امتلأت سماء الكشاشين الفسيحة التي كانت طيورهم تصول وتجول فيها بطيور حديدية صماء تفتك بالحياة وتزرع مكانها القتل والفناء.
كانت هواية تربية الحمام في مدينة درعا مثل غيرها من المدن السورية من الهويات الطريفة التي تحظى باهتمام خاص لدى عدد كبير من أفراد المجتمع الذين جعلوا منها مورد رزق أيضاً إلى جانب إشباع المزاج الشخصي الذي لا يعرف متعته إلا "الحميماتية " أنفسهم، ولا بد لمربي الطيور من أن يكونوا ذوي خبرة واسعة في أنواعها وفي طرق وأساليب تربيتها وتزيينها واصطيادها أيضاً –كما يقول الحراكي لـ"زمان الوصل" مضيفاً أن مهنة "الحميماتية" ارتبطت أيضاً بسمعة غير جيدة، إذ راجت أقاويل وإشاعات تتعلق بـ"الحميماتية" ومنها عدم قبول شهادة الحميماتي في المحاكم لأنه مستعدّ أن يحلف بكتاب الله يميناً كاذباً حتى يستخلص طائراً مأسوراً له لدى زميله في الهواية.
وأردف أن "الكثير من العائلات كانت ترفض تزويج بناتهم لمجرد معرفتهم بأن الشخص المتقدم لها "كشاش حمام".
ويشيع بين كشاشي الحمام في "الزعتري" قانون ينظم عملية الكش، وينص هذا القانون الشفهي –حسب الحراكي- على أن الطير الذي يقع لا يرجع إلى صاحبه.
إلا أن هواة الكش يعمدون إلى تعديله أحياناً، وقد يعيدون الطيور إلى أصحابها خصوصاً إذا ما كانت هناك معرفة أو صداقة بينهم.
وكانت تجارة الحمام تزدهر خاصة في فصل الشتاء والربيع وذلك لملاءمة الطقس واستعداد الحمام للتكاثر، أما في فصل الصيف فيتفرغ مربو الحمام للاهتمام به من ناحية الغذاء والنظافة، وكان سوق الحمام في درعا المحافظة- يضم عشرات الأنواع من الطيور الغالية الثمن والرخيصة على حد سواء، وكان من أكثر أنواع الحمام مبيعاً- كما يؤكد محدثنا- "الهنغاريات" و"اليهوديات" وهي أنواع أجنبية مستوردة وتُعتبر "الهنغاريات" الصفراء الأجمل بين الطيور لتميزها بالطلة الجميلة والشكل الجذاب أما " البايمات الزرق " فتعتبر الأغلى في "بورصة الحمام".
ومن أنواع الطيور الجميلة "الشفر الأزرق" الذي يُقال إنه مفتاح السماء لأنه يبقى طويلاً في الجو و"الشكالة" وتُسمى أيضاً "سجادة السماء" وهذا النوع يبدو أنه على وشك الانقراض ولم يعد يوجد منه إلا القليل. ولعل أكثر ما يميز عالم طيور الحمام بحسب محدثنا– هو تنوع أسمائها فهناك بالإضافة إلى ما ذُكر "الهومري" و"الاسكندراني" و"الماوردي" و"البهبهاني" و"الشرابي" و"الموازيني" و"الشخشرلي" بألوانه الصفراء والزرقاء والسوداء.
ويؤكد "الحراكي" أن "قيمة الطير في ندرة أمثاله فكلما كانت أنواع بعض الطيور تزداد في السوق ينخفض سعرها".
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية